أسمع هديل الحمام، وأشم رائحة البحر، من خلف ستارة خضراء مقلمة، تدخل منها الرياح وتلاعب شعري، أمشي نحو ستارة النافذة لأرى غزتي وأختبر شتاءها وما قبل شتائها وما بعده،..اقترب.. اسمع صوت موج البحر، يزداد خفقان قلبي..امسك الستارة ..هديل الحمام الصباحي يختلط بالموج ورائحة أول قلي الفلافل، وتراب ما بعد المطر..اقترب من الستارة ويزداد الخفقان، افتح الستارة..فأجد الجيزة ..أنا لا أزال هنا ..لم أذهب هناك .. في القاهرة…حيث لا بحر ولا هديل ولا حتى فلافل…
يهبط قلبي أربعين ربيعاً ويعود لخريف كئيب فأعرف أني لم أرجع لغزة ولم أقترب حتى من رائحتها ولا من هديل حمامها، أتقبل الواقع الذي لا يتقبلني أو يتقبلنا نحن المحكوم عليهم بالإبعاد الاجباري إلى أجل غير مسمى، نحن الذين اضطررنا للرحيل إلى أن تعود البلاد إلى البلاد..
آخر أسبوع سكنتني غزة وسكنتها حد الهذيان..يزورني موتاها تباعاً في اليقظة وأحلام الحرمان والعطش: جدي عبدالله وجدي خليل، فأتكلم عنهما للجميع علّني أخفف الافتقاد..وذنبي لعدم رؤيتهما قبل موتهما..أتكلم عن طفولتي كأني أعيش آخر أيام حاضري ..أخبرهم عن دقات الساعة في الانتفاضة الأولى التي كان وقعها يشبه وقع “بسطار” جندي اسرائيلي يقترب من باب منزل جدي في المخيم، فأبقى مستيقظة طوال الليل ولا أنام حتى تؤكد لي والدتي أنها ليست سوى دقات ساعة الحائط..
أتكلم وأتكلم في غربتي عن غزة ورفح وبحرهما، لعل الحكايات تعوضني ولكن لا الكلمات ولا الكوابيس ولا اليقظة تعوضني الراحة التي كنت أشعر بها وأنا أسمع صوت والدتي وأرى والدي أمامي ونتحدث في كل شيء ونضحك على كل شيء، ويمسنا هواء قادم من النافذة على ضوء الشموع أو “الشمبر”، فبالضرورة تكون الكهرباء مقطوعة..تفاصيل صغيرة وعادية نكفر منها وبها في غزة، ولكن بعيدا عنها يكاد الواحد منا يذبح لها القرابين لترجع وتعود اللحظة، تلك اللحظة وذلك المكان وتلك العائلة..الله ما أجملك يا وطن..
أنا لاجئة ..ولم أعرف يوما وطني الحقيقي وفي الغالب لن أعرفه، وحين كتبت فلسطين أول مرة وأنا في الابتدائية كتبتها بالصاد..لأن وطننا كان دائما افتراضياً..وكنت آمل أن اعتراف الأمم المتحدة بالعضوية الكاملة لفلسطين ينقلها من الافتراض إلى الخرائط والأجندات الرسمية وبين أعلام الدول الأخرى في واجهات المؤتمرات وفي قائمة الدول الالكترونية عند كاونتر تذاكر السفر وحجوزات الطيران وحتى على شباك الوسترن يونيون..بدلاً عن انتظار الذل والإهانة إلى أن يجدوا أننا كائنات لها هوية واضحة المعالم ولسنا مسوخ الجنسية ..
اليوم وفي هذه اللحظة بالذات ومع كل هذا الحنين ومع حتمية الفيتو الأمريكي، أقول أن غزة وطني الذي لا يعوضني عنه حبيب أو عمل أو حتى حرية..وطن بلا حرية أصبح الآن أفضل عندي من حرية بلا وطن..ليس ذنب أوطاننا أن وجهها يتغير..فأحيانا ترتدي نقاباً وأحيانا ترتدي باروكةً صفراء وأحيانا تضع وشماً..فأوطاننا لا ترتكب الذنوب..بل نحن نكسيها بذنوبنا..ونكرهها ونتشائم منها ومن ثم نهرب كي لا نرى ما اقترفناه..
أشتاق لك يا غزة..إلى شتائك وصيفك وشوارعك واسمائك..وبحرك الذي لا يشبه بحرا هنا وإلى سمائك التي لا تشبه سماءً هناك..وحتى قيظ الظهيرة وعبور المارة الصامت وضوضاء السيارات في يوم عادي أشتاق له،..فعاديتك يا غزة فارقة لا تزور بقية المدن..
يزورني حضن جدي وأنا اختبئ تحت لحافه في ذراعه الكبيرة كأنها جناح “مالك الحزين” فيغادرني الخوف الطفولي..تلك اللحظة بالذات يا جدي لم تعد أبداً بعد موتك..فقد ذهبت بذهابك..كما ذهب اللحاف..وليس معي الآن غير هذه الأغطية الخشنة التي تزيد قلقي وكوابيسي..ولا يخفف وطأتها سوى تلك الستارة المقلمة التي أرى غزة من ورائها…
تعبت من الحنين والعطش..غادريني يا غزة..كي أرى الجيزة هي الجيزة!..
أسماء الغول-القاهرة
30-9-2011
سبتمبر 30, 2011 عند 5:29 م |
رائع ومؤلم لان الفلسطيني مكتوب عليه ان يعيش متألما,فاما وطن بلا حريه وإما حرية بلا وطن
سبتمبر 30, 2011 عند 6:01 م |
لن تغادرك يا اسماء …لانها تسكن فيك حتى النخاع…فنحن لا نسكن الوطن بل انه يسكن فينا..وموجع هو الحنين
سبتمبر 30, 2011 عند 6:41 م |
ونزداد تعب على تعب، وخوف على خوف، واشتياق على اشتياق، يخبرنا الناس أن الوطنّ يسكننا، هي كلمات تخرج كمسكنات مؤقتة، كمخدات الفنادق، لن تألفها ولن تألفك لن تعتادها ولن تعتادك، لن يعرف أحد للأسف ياصديقتي معنى أن تكون لاجئاً مرتين، معنى أن تقتلع مرتين، معنى أن تسكن اللاأفق، اللاأمل واللاشيء، لن أقول لا تحزني أو لاتجزعي، على العكس، احزني وتألمي، فمنتوج الحزن والألم يبقى ولايزول، وعزائنا وعزاء من قرأك وسيقرأك أن مانحققه ونحن في أحلك لحظاتنا أسمى وأشد روعة ممانحققه في أحلى لحظاتنا، لذلك اجعلي قلمك مؤنسك، يؤنسنا ويؤنس من سيأتي بعد حين، ليقرأ قصة اللجوء مرتين ..
بكل الحب والألم
صديقك هاني
سبتمبر 30, 2011 عند 7:28 م |
أدمعت !
سبتمبر 30, 2011 عند 7:45 م |
وجعتيني
“وطن بلا حرية أصبح الآن أفضل عندي من حرية بلا وطن”
هالجملة حكت كتيييييييييييير حكي
الله يهدي بال غزة، وترجعي وكُل حدا بحب غزة لغزة
لا تطولي علينا بمدوناتك أسوم 🙂
سبتمبر 30, 2011 عند 8:37 م |
ليتها تُغادركِ لأنها ملعونة كشعبها .
سبتمبر 30, 2011 عند 11:30 م |
” أنا لاجئة ..ولم أعرف يوما وطني الحقيقي وفي الغالب لن أعرفه، وحين كتبت فلسطين أول مرة وأنا في الابتدائية كتبتها بالصاد..لأن وطننا كان دائما افتراضياً. ”
كيف إذن تطلين من غزة الهروب منك وأن تغادرك ؟؟ وهي ذلك الوطن لنا ولم ولن نعرف وطنا غيره ؟؟ فلا أنتِ تعرفين ل “صرفند ” طريق ولا أنا أعرف ل ” الفالوجا ” ملامح ….
هي غزة ولن تغادرنا ولن نغادرها حتى لو غادرناهاا.. هي رفح و”العمارة ” وكل الأيام واللحظات التي قضيناها وكأنها بالأمس كانت … فكل ركن هناك أحقظه وكل لحظة مرت بنا لن تغادرنا
أشتاقك قدر اشتياقك لغزة … عسى وجع الحنين لغزة يخفف حرقته ..
اكتبي عن حنينك وعنا وعنك أكثر وأكثر
فأكثر ما أحبه هو أن أقرأني فيكِ وأريد أن أقرأني أكثر
أكتوبر 1, 2011 عند 5:51 ص |
الاخت العزيزة اسماء الغول انني معجب في كتاباتك وخصوصا جراتك على قول الحقيقة في الوقت الذي يختبئ الرجال الاشداء في هذا الزمن العجيب لذلك فانني احييك والى الامام ان شاء الله .
المبعد من كنيسة المهد فهمي كنعان
ايميل fkanan@hotmail.com
أكتوبر 1, 2011 عند 12:05 م |
بعد التحيه/ إيتها الجميلة لقد طالت غربتك ليس عن غزة فقط بل عن غزة وعن صفحتك فقد اشتقنا لكتاباتك الجميلة التي لا تمل فإن هجرتي الوطن لا تهجري صفحتك لعلها تكون السبيل في انعاش الداكرة بدكريات غزة
أكتوبر 2, 2011 عند 12:56 ص |
شكرا على الاحاسيس الجميله اللي وصلت لنا اياها ,والله يحفظك ويرعاكي
تحياتي وسلاماتي ومحبتي وتضامني معك
أكتوبر 2, 2011 عند 9:51 م |
رائعة في كلامك يا اسماء بهنيئكي وبتمنالك التوفيق ان شاء الله
أكتوبر 3, 2011 عند 5:01 ص |
يجب ان نتالم
الالم هو الاحساس الرائع لعمل رائع للوطن لا يكفي ان نتذكر ولكن علينا ان نتعلم من ذكرياتنا ان نعيد بناء الوطن من جديد
اسماء صباحك رائع والوطن رائع ولكن ماذا فعلنا به
شدوا الهمة حتى مع الفيتو الاميركي
نحن شعب لانخضع ولا نستسلم
فواز فركوح من اللاذقية على البحر المتوسط من سوريا الجريحة
كل الحب
أكتوبر 5, 2011 عند 12:02 م |
[…] مدونة أسماء الغول […]
أكتوبر 6, 2011 عند 6:56 ص |
مدونتك رائعة ومهمة جدا لمن يشتم غزة واهلها من ابنائها لأنهم لايحتملون تحمل مسؤولية حبه ويريدون الهروب خارجها ..لأن لديهم مراهقة ويتخيلون العالم اجمل بدون غزة …الرحيل القصري مؤلم والاكثر إيلاما الحنين القسري أيضا تحت ضغط المشاعر ..أعانك الله على غربتك اسمه…في كل مرة تكوني أكثر ابداعا
أكتوبر 7, 2011 عند 7:49 ص |
مبروك يا اسماء الفوز بالجائزة في موناكو….. تستحقين كل التألق .. حققتي حلم غزة
أكتوبر 8, 2011 عند 5:55 ص |
عالجرح والله
البعد القصري عن غزة عذبنا
أكتوبر 8, 2011 عند 9:17 ص |
مبروك جائزة صحفية البحر المتوسط في موناكو/فرنسا, وقبلها جائزة دبي.. وقبلها جائزة هيومن رايتس وقبلها القطان للقصة القصيرة …وقبلها.. وقبلها..كلما ضيقوا عليكِ غزة أكثر فتحت الانسانية كلها لكي آفاق أرحب.
أنتِ في قلوبنا مهما أبعدتكِ الغربة..وعزاءنا عن رؤيتكِ واحتضانكِ أن كل تقدير عالمي لأسماء هو صفعة لكل من تجرأ أو تجرأت بإهانة جسدية أو لفظية لها.
(لم تسعني أرضي ولا سمائي..ووسعني قلب عبدي المؤمن) حديث قدسي.
من والديكِ وأخوتكِ وابنكِ ناصر.
أكتوبر 9, 2011 عند 3:06 م |
مبرووووك يا اسوووم
بترفعي الراس وين ما رحتي ووين ما كنتي
أنا بخير ومشتقالك
كوني بخير وتضلك طيري من انتصار لانتصار
بتستحقيه بجدارة يا ابنة الحياة
أكتوبر 13, 2011 عند 8:56 ص |
ستحفر الايام معالمنا المغيبة … ستضهر تجاعيد وجه غزة الصابرة لايهمنا ان تظهر التجاعيد لكن سيعرف الجميع يوما انا كنا هنا منذ الأزل لن تزول بزوال اجسادنا فستبقي قوية هي المعالم ..حجارتها ..مساجدها ..كنائسها .. نعشقها وتعشقنا ..نبكي لأنا غرباء بداخلها وخارجها ..
تطردنا خارجها ليس قسوة منها ..ولكن لتعلمنا الحنان ومعني المكان سيذهب الظلم والضير عنا لاننا ولادنا احرار …
اسماء جميلة هي الكلمات حينما تترجم المشاعر .. مرارة وشوق وحنين وملامة …غزة لم تكن حكرا لأحد ولن تكن كذلك .. غزة تفخر بكى واينما كنتي لانك احدي الاصوات النابضة التي تخبر الاخرين بوجعها …
أكتوبر 15, 2011 عند 12:13 م |
رائعة ومؤثرة وتعبر عن كل شخص يمارس ابداعه خارج وطنه، مبروك الجائزة وغزة آجلا أم عاجلا ستلفظ غرباءها وستنتظر أبناءها ليعيدوا بناءها
فيفري 27, 2012 عند 9:21 ص |
كلام رائع