كأننا نعيش في غيبوبة

مارس 3, 2014

Image

كأننا نعيش في غيبوبة

كأن السنوات التي مضت كانت غيبوبة الثورة والتغيير والآن استيقظنا

كأن الشعوب العربية أخذتها دقات القلب المرتفعة والنشوة ثم سقطت فجأة إلى بئر لا هاوية له

حتى الكتابة صعبة…جرح مفتوح على كل شيء..

كيف يمكن لغيبوبة الثورة أن تجمعك مع غيبوبة الحب لتستيقظ فجأة على وهم اسمه الاستقرار

كيف كنا نموت ونُصاب ونحب ونكره ونهتف ونحن لا نملك الا السراب

اخذتنا نشوة الثورة والحب…اخذتنا نشوة التصديق

كنا نريد ان نصدق ان مصائرنا اختلفت وان حيواتنا اختلفت

لكننا ننام على العتمة ونستيقظ عليها ولا شيء داخلنا سوى العجز والبحث عن تلك الكرامة التي تخيلنا اننا نملكها..

كرامة الحب وكرامة الثورة وفجأة….لا شيء

كيف لا تريدون لقلوبنا ان تتورم حد الانفجار حين ندرك ما فعلناه بأنفسنا؟

أي ثوارت؟! وأي حب؟!

نحن صدقنا ما كذبنا على أنفسنا به

نحن صدقنا ما أردنا تصديقه

الآن نيأس كما كنا قبل 2011..كما كنا قبل الحب والثورة

ولكن يأس اليوم ليس كما يأس الأمس

يأس اليوم لا توجد آخره فوهة الأمل

يأس اليوم هو يأس الجموع يأس الأمل

يأس الحب والثورات

يأس اليوم هو يأس حداثي

يأس الكتروني

يأس ليس له حواس

ليس له خط رجعة

رجعت لأقول أنني كاذبة كذبت على نفسي

رجعت أقول أني كنت أعيش وهما

رجعت أقول أنني لم أعد أعرف نفسي

هل أنا تلك التي بلا حب ولا ثورات

أم أنا الملتصقة بهما

هل الحب جاء مع الثورات فعلا أم جاء مع بدء خيبتها

كم واحد فيكم أحب وثار وثار وأحب وكان الحب وقود ثورته والثورة وقود حبه

كم واحد فيكم فاق من غيبوبته ليعرف أنه باع نفسه رخيصة لأكبر كذبتين الحب والثورة

ألم يقل غسان كنفاني العمر لا يحتمل كذبتين كبيرتين

اذن هل لهذا نموت في كل مكان؟.. نموت في مصر وسوريا وغزة وليبيا والعراق واليمن وتونس

لأننا صدقنا بالحب والثورة فلم تحتمل أعمارنا الكذبتين…

هل بكينا؟

هل أعطينا الفرصة لأنفسنا كي نبكي؟

هل بكينا أحبابنا.؟…هل بكينا حبيباتنا؟

هل بكينا أعمارنا المهدورة؟

هل بكينا اخوتنا واخواتنا الذين ماتوا فداءً للمحبوب ..فداءً للثورات…؟

نحن لم نبكِ عليهم بعد

ولم نبكِ علينا..

نحن نحتاج أن نستيقظ أولا ثم نبكي

استيقظوا..

 غزة-أسماء الغول

3-3-2014

 

 

 

 

 

ممتنعة عن الكتابة في المدونة حتى إشعار آخر!!

فيفري 1, 2012

أسماء الغول-غزة
1-2-2012

غزة…المدينة النبية

ديسمبر 10, 2011

لم أعرف مدينة تعاقب نفسها وتعذبها مثلما تفعل مدينة غزة، على الدوام تتمرد على ذاتها، وتثور وتلفظ قادتها وحكوماتها وليس الآن فقط بل منذ حكمتها الملكة هيلانا وغزة ارض المتمردين ولا توجد فيها حكومة استطاعت أن تغرس أوتاد خيمتها بأرضها أكثر من 15 عاما، فأهل غزة ليسوا بالعاديين بل إنهم قاطنو المدينة النبية، المتمردون، الثوار قبل أن يخترع التاريخ الثورات…فهي مدينة كلما “تألمت أكثر تعلمت أكثر”.

كنت في برنامج على النايل لايف الاسبوع الماضي، وقد سرحت معظم البرنامج لأن المذيعة مصرة على أسئلة خاصة بوطنية الانتخابات وأهميتها ما جعلني أقترب من الغضب وأنا أقول لها بأني لست مصرية- هامسة داخلي بسخرية حتى لو كان زوجي السابق مصري وزوجي الحالي مصري أيضا- أمر مضحك…

فضلت أن أسرح في البرنامج على أن أركز معها. وكنت أفكر كيف أن المصريين يستطيعون أن يعشقوا أنفسهم بل يثملون وهم يمدحونها، عكسنا نحن أهل فلسطين الذين لا ننجح سوى بهجاء أنفسنا أو البكاء عليها..كم مرة سمعتم في تاريخ التلفزيون المصري العبارات التالية: “الشعب المصري شعب ذكي- شعب عبقري- شعب ما بينضحكش عليه”، رغم أن كل الشواهد تشير -وأنا هنا أحاول ألا أكون عنصرية- أن الشعب المصري” انضحك عليه وكثير أوي كمان”، ولكن الشعب الحقيقي الذي لم يضحك عليه أو يخدعه أحد أبدا هم أهالي قطاع غزة، وأعرف أن حديث المطلقات والتعميمات يوقعني بالخطأ بسهولة ولكن سأقول لكم نظريتي:

كان صديق يجلس في جلسة فيها أحد وزراء حكومة غزة المقالة، وكان هذا الوزير يتغنى أن الحرب استمرت 22 يوما لأن كل يوم منها منح كرامة لـ22 دولة عربية، طبعا ليس هذا المهم في كلامه على الاطلاق، ولكن المهم هو قوله أن غزة نموذج سيحتذى به في الثورات العربية والحكم الاسلامي القادم والنضال والحريات والتنظيم والادارة وإلخ وإلخ…وبالطبع كلامه صحيح ليس أنها المثال أو النموذج، ولكن بأن الدول العربية تتبع غزة، فبرأيي أن هذه المدينة الصغيرة هي القدر المصغر لجميع الدول العربية فالذي تعانيه وستعانيه الدول العربية على مر التاريخ الحديث، غزة المدينة النبية تلخصه بعقود قليلة، وتتبعها بالمصير ذاته جميع دول العرب.

غزة حكمتها زمرة فاسدة بعد أوسلو لمدة حوالي 14 عاما، والزمرة التي تتدعي العلمانية والوطنية والقومية ذاتها حكمت الدول العربية لعقود استمر أكثرها في ليبيا لـ42 عاما، غزة نجحت بتنظيم انتخابات نزيهة شفافة عام 2006، مصر وتونس احتاجت ما يزيد عن الثلاثين عاما كي تفعلان ذلك، غزة حين اختارت الديمقراطية الشفافة انتخبت الاسلاميين بحثا عن الامل ولان النظرية الاسلاموية هي النظرية المثالية الوحيدة الباقية لم تسقط في نظر الشعوب وعليهم ان يجربوها، والآن حركة الاخوان المسلمين تكتسح العالم العربي..ناهيك عن تجربة غزة مع مؤسسات المجتمع المدني والاحزاب التي تتفوق فيها بالخبرة والشفافية والنزاهة على جميع الدول العربية، وانا هنا أتحدث نسبيا، لأن لبنان على سبيل المثال تنافسنا في الأمر فالتنوع الطائفي منحها انتفاخ التجربة قبل أن تقوم سوريا بتنفيسها..

ولكن في ماذا ستسبق غزة الدول العريبة الفترة القادمة وستلحقها به بعد سنوات طويلة؟

ستلفظ غزة الاسلاميين الذين حكموها بالحديد والنار واعتقلوا الصحافيين وانتهكوا حقوق النساء وأرهبوا معظم فئات المجتمع باستخدام أبشع أساليب الابتزاز والعنف، وقننوا الفن، وصادروا الروايات، ومنعوا عرض أفلام ومسرحيات وانتهكوا الحريات الشخصية عبر ما أسموها شرطة الفضيلة، وحتى الحريات السياسية التي حرمتهم منها حركة فتح سابقا، حرموا منها الاخرين، ولكنها على مستوى آخر نظمت عمل الوزارات، وقامت ببرمجته تكنولوجيا، وقللت من الفساد إلى حد بعيد، وجعلت لغزة طابع سياحي رغم الحصار، فقامت ببناء المولات، وسمحت بالمقاهي الفخمة في أجواءالأزمات المالية الخانقة!!..
حكومة غزة ببساطة في الخمسة أعوام هذه قدمت نموذجا “متراجعاً” لما ستؤول إليه الدول العربية في الاعوام القادمة، لذلك أقول لكم أن غزة في الفترة القادمة ستسبق الوطن العربي بالتعلم من تجربتها مع الاسلاميين، وستكون ليبرالية أكثر من تونس نفسها التي احتل فيها السلفيون بكل عنف كلية الآداب والفنون والانسانيات، ووصفوا أساتذة الجامعة بالعهر وحاكموا الناس باسم الدين كأنهم صوته الوحيد المنزل من السماء، فهذه الثورات لم تفتح قفص الحرية للعصافير والغزلان فقط بل للأسود والنمور والضباع أيضاً..

غزة ستلفظ حكومتها الحالية في الفترة القادمة وستطرد تجربة الاسلام السياسي بقوة، وستنتظر الدول العربية كثيرا لتصل إلى نضج وحرية غزة النبية حينها..فالديالكتيك الذي تحمله غزة بين طياتها يحميها من أي بطش وظلم مقيمين، ويجعلها على الدوام حيوية في خياراتها وتتعلم منها، ولكن هذا لا يمنع من وجود خوف أن يعود أهالي القطاع وينتخبوا حركة فتح التي بدورها تبطش وتعتقل اليساريين والاسلاميين في رام الله حاليا، ناهيك عن الفساد، وعدم وجود كفاءات، فيخرج علينا وزير العمل أحمد المجدلاني على الهواء ويقول عن العمال والعاملات الذين يجب أن يكونوا أسياده : “أخوات هالمنــــ…”، ووزير الاقتصاد حسن أو لبدة يسرق وينهب ويحتال على أموال الشعب بدلا من أن يحميها….أليس هذا استقطاب شعبي أعمى لكل من فتح وحماس ونحتاج إلى تيار ثالث شاب ومستقل ليبدله..
ورغم تجربتنا مع الاسلاميين في غزة والتي شارفت على نهايتها-الاخوان ذاتهم لم يعودوا يريدون غزة لأنها كانت بمثابة طفل التجربة الأولى المشوه ويتطلعون الآن لسلامة التجربة في وطن أوسع- إلا أنها لم تكن المدينة الكافية كي تسقط النظرية الاسلاموية الوضعية، فمن صاغها هم مجموعة من المستفيدين رجال الدين الثيوقراطين الذين يريدون أن يحكموا البلاد، رغم أنهم يعتمدون في حكمهم على نظرية الحاكمية لله التي أزاح فيها سيد قطب عنهم الصفة البشرية ألا وهي الذنوب والخطايا، فهذه الأحزاب تعتقد نفسها أنها منزهة عن الذنب والخطأ والنار..

انه زمن الاسلاميين لذلك تحتاج الشعوب العربية دول كبيرة مثل مصر وتونس والمغرب كي يثبت الاسلاميون أن نظريتهم الاقتصادية هي بالأساس رأسمالية، والاجتماعية قمعية، والسياسية انعزالية، إلا في حال نجحت أمريكا بتدجينهم وهو ما يبدو واضحا من رضا أمريكا عن قدوم الاخوان ليكون الشرق الأوسط الجديد الذي حلمت به كوندليزا رايس.

تقول صحافية تونسية قابلتها في بروكسل مؤخرا: “قبل الثورات كان كل شيء ممنوع وبعدها كل شيء حرام”، كلامها صحيح فالممنوعات ذاتها ولكن هذه المرة مصبوغة بالصبغة الدينية، ويضاف إليها الحريات الشخصية والفن، ولكن هذا ليس معناه أن الحكومات السابقة لم تستخدم الصبغة الدينية كي تنافس الاحزاب الاسلامية التي كانت معارضة حينذاك، على نيل رضا الضمير الشعبي العربي المتدين، كذلك ليس معنى تحليلي السابق أني ضد حكم الاسلاميين، بل على العكس انه اختيار الشعوب ونزاهة الديمقراطية، والحل الوحيد لاثبات قصور نظرتهم حين ترتطم بصخور الواقع وثقل المهمة..كما حدث مع الجميع حتى مع الأحزاب الشيوعية وهم أكثر من ادعى المثالية في التاريخ….

وأخشى اليوم من القول أن الثورات العربية كانت ثورات تريد تحرير لقمة العيش وليس تحرير العقول، وأنا التي كنت أدافع دوما عن أن الثورات ليس وراءها مكبوت اقتصادي فقط بل مكبوتات دينية وعاطفية وعقلية واجتماعية أجد اليوم نفسي بعد أن اختارت الشعوب العربية الاسلاميين، أقول أنها لم تكن ثورة أحرار بل ثورة جوعى يريدون تغيير الواقع بأي طريقة لانصاف ظروفهم، ومن كان يتحضر لهذا الدور ومنظما له أكثر من غيره على الاطلاق هم أصحاب الاسلام السياسي.

وكما قلت للمذيعة في النايل لايف والتي بدت غاضبة من فوز الاسلاميين في مصر أنك لا تستطيعين لوم الرابح على ربحه لأنه يستحقه، بل يجب أن ننتقد ذواتنا خاصة أننا كلنا كنا ضد الدكتاتوريات العربية وأردنا هذا التغيير حتى لو اختلفنا على نتائجه، واذا كان يجب أن نلوم أحد على نجاح الاسلاميين يجب أن نلوم العلمانيين والليبرالين وتقوقعهم على أنفسهم ومصالحهم والهوة التي أصبحت بينهم وبين العامة فقد أصبح اليمين الاسلامي يمثلها، بينما التيارات الليبرالية والعلمانية وحتى اليسارية تقضي وقتها في نشر دعاية مضادة عن الاسلاميين ساهمت في نجاحهم بدلا من فشلهم، وأضاع أصحاب هذه التيارات وقتهم يصفون رعب الاسلاميين ونسوا تنظيم صفهم الداخلي وأن يتحضروا لقيادة الشعوب.

العلمانيون والفنانون واليساريون والكتاب والمفكرون وحتى بعض التيارات الاسلاميةالتي ليست ذات شعبية سيواجهون جميعا في الوطن العربي أبشع أنواع القمع والمزايدات الدينية والأخلاقية ولحظتها لا يوجد حل سوى تشكيل مجموعة من اللوبيات الضاغطة للحفاظ على مكتسبات المجتمع الديمقراطي وتنوعه واستقلالية الفرد فيه..إلى أن يتعلم الوطن العربي من تحربة مدينة نبية كغزة…ولكن من سيتعلم من مدينة هي مجرد نبية فقط، وليست حتى دولة، فيها الحزب أقوى من النظام السياسي لذلك يستطيع هذاالحزب أن يلغي الانتخابات فيها لأعمار مديدة..إلى أن يثور شعب الديالكتيك على الحزب فهو الوحيد الأقوى منه..

أنتظركم وأنتظركن كالعادة
أسماء الغول-القاهرة
10-12-2011

أغلقت نافذتي في صباح بلجيكي عاجز..!!

نوفمبر 23, 2011

بصعوبة شديدة يناضل الصباح في بروكسل ليبزغ، وحين ينجح تكون الساعة قاربت التاسعة وأحيانا العاشرة..أهلا بك في أوروبا..صباحات تطلع متأخرة ومساءات تطول حتى اليأس ..أليس هذا حال الوطن العربي الآن وثوراته؟.

أراقب الصباح يزيح الظلمة بثقل واصرار، من نافذتي في فندق بوسط العاصمة البلجيكية بروكسل، أتدثر ببطانية وأنا أفتح النافذة رغم البرد الشديد كي أتلمس جمال المدينة وكي ابحث عن صفاء الروح، بعد يوم طويل من العصف الذهني والفكري قضيته في المفوضية الأوروبية، أمس، في نقاش جماعي يبحث احتمالات ما سيؤول اليه مستقبل الدول العربية، وكم هو موضوع يغبش الروح ويحزنها..!

يقول أحد الروائيين أن المكان الذي يجرحك تبدأ بعشقه، وربما لهذا السبب لم أقع في حب أوروبا بعد، وأراه نوع من الكابوس أن أضطر لأي سبب كان الاستقرار فيها، ولكن ما أيقنه جيدا أني واقعة في حب القاهرة وغزة ورفح حد الهذيان، فالطالما جرحتني هذه المدن وأدمنتني على المشاكل والمعاناة والفشل.

ولا أدري ما صحة أن المكان الذي تكون فيه مستقرا يدفعك للابداع ما يناقض مقولة ان المعاناة هي التي تدفعك إليه، ولكني ارى اني اكتب في كل مكان، الا في حال كان قلبي قد سيطر على عقلي بألم جديد فلا أستطيع سوى أن أصاب بالبلادة معه وشعور بالنبذ، ألا يحدث هذا معكم؟ ألم يحدث أن تشاجرت مع حبيب أو صديق عمر فشعرت بالنبذ الكبير إلى درجة تبدأ بالشك في ذاتك، ويتَلَبَسك احساس أن كل من يراك في الخارج يعرف كم تم اذلالك، فتكون ردة فعلك مضاعفة بالغضب والانعزال عن كل الناس حولك، كأنهم جميعا اتفقوا عليك؟!.

بين النبذ والاغتراب والبرد وهذا الصباح الذي لم ينجح بالطلوع حتى الآن، أتساءل: اذا ما كان الغجر يشعرون احساسي بالعجز الانساني حين تحذفهم رحلاتهم وأقدارهم إلى حيث لا يعلمون، أم أن ذلك يحررهم من كل ما يَعلق بالنفس من أحقاد واحباطات؟ لا أدري، لا أدري..كل ما أعرفه أني أحمل حيرتي وقلقي إلى كل مكان…

كيف لا أقلق اذا كانت ثوراتنا لا تزال عالقة في رحم المستقبل، واذا كان يلزمنا مزيدا من الدم لدرجة النزيف كي تنجح ولادتها كما يحدث الآن في ميدان التحرير بالقاهرة، أو قد تنحرف عن المسار الأصلي وتكف عن كونها ولادة ثورة وتتحول إلى مسخ كما حدث في ليبيا، ولكن أليس نحن نتحمل مسؤولية أحلامنا في الميدان ويجب أن نقاتل من أجلها للنهاية؟..كي لا تنكمش ثورتنا على نفسها كما يحدث في اليمن الآن، أو تفور وتفور دون أن تطفئ نيران الظلم كما في سوريا..أو نسلمها لأيدي الجديد المجهول كما تونس.

صوت القطارات يملأ الصمت البلجيكي بالضجيج، دبت الحياة في المدينة ولم يدب فيها الصباح بعد، يا الله كم يشبهنا هذا الصباح المؤجل، كم يشبه افراحنا وحبنا وضحكنا وسعادتنا واطمئنانا….

كنت ذهبت إلى باريس ومدينة جِنت في بلجيكا لرؤية شقيقي مصطفى الشهر الماضي وذلك بعد موناكو، وكنت سأستمر في كتابة يومياتي هناك -وبالفعل توجد عندي بعض المسودات-، إلا أن محادثة سكايب مع والدي وهو قارئي الوحيد محل الثقة الذي تهمني ملاحظاته، قال لي فيها: اخرجي من الخاص للعام،..جعلتني أحبط وأشعر بالتكبيل، أعرف أن معه حق، ولكن هذ البوح الخاص نادرا ما نراه وأشعر أن الجميع بحاجة إلى الصدق الشخصي كي نعرف كم نحن نرتكب فداحة التشابه والاقتراب من بعضنا البعض انسانيا، وأن تجاربنا وأخطاؤنا تتماثل قبل مشاعرنا.

لم أكتب عن باريس تلك المدينة التي تعتني بالغرباء حتى لو تهت فيها لأنها بريئة من ذنبك.. ولم أكتب عن مدينة جِنت ببلجيكا ورحلة الدراجات في غابتها، ولم أكتب عن أي شيء آخر، بل رجعت إلى القاهرة وعشت فترة بلادة جديدة تمنعني من كل شيء عدا الانعزال والقراءة، وكتبت عن خوازيق الثورات نصا صغيرا يحررني من ألمي، وقضيت عيد الأضحى بين كتب كونديرا وعبد الرحمن منيف ولم يخرجني من بينها، سوى شقيقي المخرج عبدالله الذي ذبح خروفا وأرادني أن أساعده في طبخ المقلوبة، ولقد أخرجتني تلك المقلوبة برائحتها وطعمها من اغترابي الآني ليطير بي الحنين إلى غزة ورفح وأمي وجدتي وأيامنا تلك التي كانت فيها الصباحات قوية وشجاعة تتحدى الظلمة المنزاحة..

يبدو أن الصباح هنا في بروكسل استسلم للظلمة التي زاد من طبقاتها ضبابا غير متوقعا، ويبدو أننا في أوطاننا سنسلم أقدارنا لثورات غير حاسمة، وتراودني كثير من أسئلة كنت ناقشتها مع صديق فرنسي، فهذا زمن الأسئلة وليس الاجابات: هل نحن من نؤمن بالعلمانية كحل للدول العربية كنا سبباً في غير الحسم هذا؟ هل انشغلنا بمقاتلة الآخر الإسلامي لدرجة أننا نجحنا في الترويج له ونسينا أن نبني وننظم أنفسنا؟ هل يجب أن نسلم بأننا نحن النخبة وهم الأغلبية؟ هل سيتسلم الراية أعداء الفن والأدب والجمال ويجب أن نرضى بسبب حكم الديمقراطية، وفي الوقت نفسه علينا أن نحتفظ بحسن النوايا؟ هل سنندمج أم ننعزل؟…

أسئلة تضج برأسي وصوت آذان أسمعه في كل لحظة وأنا أجلس أمام النافذة، ولكني أتذكر فجأة أني في بروكسل، فقد تماهت علي المدن واختلطت أصواتها في ذاكرتي، لأنني قبل بروكسل عرجت على اسطنبول وهناك تعودت أن أستيقظ على جمال صوت الآذان، وأذكر أني في تدوينة سابقة عن مدينة أنطاليا بتركيا قلت أن المكان الوحيد الذي يليق بالآذان هو في هذه الدولة بكل بما فيها من حياة وحضارة وحرية.

صفعتني تلك المدينة بروعة الشرق والغرب الرابض في كل زاوية منها، وجمال مضيق البسفور والجسور المعلقة والمساجد الكبيرة بعتقها وخشوع أرواحها: مسجد آيا صوفيا الذي كان كنيسة، والمسجد الأزرق الذي يحتوي أجمل لوحات الفسيفساء بالعالم، ومسجد السليمانية الذي يفترش شاطئ البحر.

أحيانا يزورك احساس أن جميع المدن متشابهة بضفافها وحرياتها وشوارعها، خاصة اذا كنت لا تخرج من قاعات المؤتمرات والاجتماعات إلا نادرا، أو يكون هذا الاحساس نابع من داخلك بسبب افتقاد مدينة أخرى بعيدة عنك، وقد شعرت هذا في اسطنبول بسبب كثافة فعاليات مؤتمر شبكة “نهضة نت وورك” التي بدا جليا قربها من حزب العدالة والتنمية الحاكم، ومدى الطموح لاحتضان مرحلة الربيع العربي على مستوى الدولة لأسباب لا اعتقد بنقائها، إلا أن اليوم الاخير في اسطنبول كان حرا دون التزامات أدبية، وتنقلت خلاله من مسجد إلى مسجد، ومن مذاق إلى مذاق ومن شارع إلى شارع ومن ضفة إلى أخرى، ما جعلني أدرك أنها لا تشبه مدينة في العالم ولا توجد مدينة تشبهها وأنه ربما لذلك تشعر حكومتها بحقها في المنطقة، فكما يقول أحد الفلاسفة : “إن أردت أن ترتقي فاقترب من الآخر”!!..

بلجيكا وفرنسا والقاهرة وتركيا….مللت من السفر والمطارات الكبيرة، وابتسامة المضيفات البلاستيكية، والتجارب الجديدة، وتوضيب الحقائب والوحدة، وتذاكر الطيران الالكترونية..فأرجِعيني إليك يا غزة، ولا تكوني مثل هذا الصباح البلجيكي العاجز..

قررت..نعم لقد قررت: أن أغلق النافذة..فوقفت أمامها.. تمعنت بالسماء وعرفت أن نور الصباح أعطاني ظهره، وعادأدراجه..وأغلقتها..
أسماء الغول
بروكسل
23-11-2011

لماذا يا سيدي ثوراتنا تنتهي بخوازيق؟

نوفمبر 3, 2011

 إلى أستاذي عبد الكريم الخيواني

لماذا يا سيدي ذهبتَ وتركت زهرة وحيدة على طاولتي ..؟

لماذا يا سيدي رحلت دون أن تجيب  أسئلتي؟

لماذا يا سيدي ثوراتنا تنتهي بخوازيق؟

 لماذا يا سيدي نحن نظل فقراء وأولئك أصحاب المواهب الضئيلة يكنزون الوظائف والرواتب؟

 لماذا يا سيدي مُدننا تلفظنا خارجها ومدن الآخرين تحضنّا إلى داخلها..؟

لماذا يا سيدي صوت هديل الحمام في بيت جدي بالمخيم أجمل من صوته في إيطاليا وفرنسا ومصر وبلجيكا؟

 لماذا يا سيدي يتم تحويل الثوار إلى مستشفى الأمراض العقلية والثورات لا يبقى منها سوى أوراق مدرسية؟

لماذا يا سيدي للمدن التي نحبها رائحة الحبيب وللمدن التي نكرهها رائحته أيضاً؟

لماذا يا سيدي نختنق ونحن نياماً في غربتنا على أسرة غريبة في حجرات غريبة ونصحو فزعين نبحث عن صورة تواسي موتنا الأخير؟

لماذا يا سيدي قالوا أننا شجعان وأبطال وقادة ودخلنا المعتقلات ثم حكمونا بالعسكر وحَضّرُوا لنا الاسلاميين؟

 لماذا يا سيدي الثورات الكبرى تنتهي عند الانتقام وآبار النفط وغرف النوم ؟

لماذا يا سيدي تَحَول بعض الثوار إلى آكلي لحوم البشر؟

لماذا يا سيدي الثورات واقع حد الحلم وحلم لا يصل إلى الواقع؟

لماذا يا سيدي ينظر الحبيب إلى حبيبته غاضباً ساخطاً كأنه في ميدان معركة؟

 لماذا يا سيدي في أوطاننا المسدس بريء والحب متهم حتى تثبت براءته؟

لماذا يا سيدي تركت وردة ورحلت وقلت لي: إنه زمن الاحباط..؟

 لماذا يا سيدي نبحث عن الثوار الحقيقين بعد انتهاء الثورات ونجدهم في السجون العسكرية وسجون الاستئناف والسجون الادارية والسجون الجنائية ولا يبقى حولنا سوى المنافقين والبلطجية؟

 لماذا يا سيدي هتفنا الشعب يريد اسقاط النظام وانتشينا بالنصر ثم اكتشفنا أن النظام أسقط الشعب؟

 لماذا يا سيدي يتركون المرأة تسبق الرجال في الميدان ويقولون أنها صاحبة الثورات وحين ينجحون يُرْجعُونها إلى القفص ثانية؟

لماذا يا سيدي البيوت تشبه بيوتاً أخرى والصور فيها صور أخرى والعيون فيها عيون أخرى والقلوب فيها قلوب أخرى والأرواح نزقة لا تجد متسع لها؟

لماذا يا سيدي الرؤساء العرب يقولون في الكلمة الأولى أن الثورات مؤامرة، وفي الثانية أنها ديمقراطية، وفي الثالثة أنهم سيصلحون، وفي الرابعة سيرحلون، وفي الخامسة سيسلمون الحكم للنواب، وحين يصلون السادسة يكون الشعب صار جثثاً مذبوحة خلف منصة خطابهم؟

 هل عرفت الآن يا سيدي لماذا انطفأ البهاء في عينيّ…؟

القاهرة-أسماء الغول

3-11-2011

تائهة في فرنسا!!…

أكتوبر 13, 2011

 

7-10-2011

رائحة الناس في محطة نييس الفرنسية غريبة تذكرني برائحة سكان كوريا الجنوبية، ولكن هل للشعوب رائحة؟ مثلا لا أتذكر ما هي رائحة الشعب المصري رغم اني أعيش هناك أو ربما أنني تماهيت معهم فغدوت جزءا من رائحتهم..

هنا للناس رائحة قوية ربما لاحقا حين أقضي بعض الوقت اكتشف سبب الامر مثلما اكتشفت بعد شهور طويلة أثناء اقامتي في كوريا الجنوبية أن سبب رائحتهم هناك هي نوعية الطعام الذي يتناولونه فحتى الافطار مكون من اعشاب البحر “البنيمبوب” الملفوف بالارز والسمك النيء، لا يوجد دولة زرتها في حياتي اجمل من كوريا الجنوبية حتى هذه اللحظة!!، هي البلد الذي احن اليه دائما بعد غزة ..

الآن انا في محطة نييس الفرنسية عالقة بسبب اضرابات العمال، بعدما خرجتُ من موناكو متجهة لأزور اختي التي  تعيش في كليرمونت..

أنفي أزكم من الرائحة هنا.. ليست كريهة بقدر ما هي غريبة كليا، هل معقول ان فرنسا ارض العطور الفاخرة يكون اول انطباع سلبي عنها يخص الرائحة، ربما كان محقا المؤلف باتريك سوزكيند حين جعل الرائحة في رواية “العطر” نكسة لأهل فرنسا..وربما كان القول الشائع أن الفرنسيين صنعوا العطور لأنهم لا يستحمون حقيقة !..نفضتُ الشكوى عن رأسي واشعلت سيجارة خارج المحطة علّها تبعد عني تلك الرائحة ولكن دون فائدة…

هنا اضرابات للعاملين وكذلك في مطار القاهرة و في وول ستريت بنيويورك، أشعر بالنعاس واريد ان أسب ولكني لا استطيع مع من يطالب بحقه فهم يضربون من اجل تحسين اوضاعهم من يدري من سيسب علي يوما اذا أضربت..”اضرب مع غيرك كي يضربون معك” يبدو أنه سيكون شعار الفترة القادمة…

قطاري تأخر، وعندي شعور أنه سيُلغى..قلقة.. وصرفت “الفكة” التي معي على التلفونات، فأختي تريد الاطمئنان علي رغم انها اصغر مني ولكنها تعاملني كأنني في العاشرة، وأنا أتفهم ذلك فهذه اول مرة لي بفرنسا وانا لا افقه شيئاً في لغتهم وهم لا يعرفون الانجليزية الا نادرا جدا جدا..إنهم فخورون بأنفسهم حد إصابتي بالغضب..

المغاربة يملأون المحطة وهم فقط من ساعدوني وباللغة العربية..نحاول الحصول على كوب شاي فمحطة نييس صغيرة ولا يوجد بها كافتيريات، اخذت ما معي من ماء وقصصت زجاجة بلاستك صغير لاصنع منها كوبا ووضعت كيسا من الشاي فانا احتفظ بأكياس الشاي لانها مجانية في غرفة الفندق، وهكذا شربت مع التونسيّن صدام وجمال الشاي وهما مثلي ينتظران القطار، وضحكت على اسمهما لأنها أسماء رؤساء عرب، فرد جمال انه انتهى زمن هذه الاسماء كرموز، والان زمن الانتفاضات والتغيير، فكرت كم أنتما متفائلين فان الاجهزة الامنية هي نفسها التي تعشش في دول الثورات، واكبر دليل على ذلك بلدكما تونس وحكيت لهما قصة عدم سماحي دخول تونس يوم 3-10-2011 بالاضافىة الى 11 مدون ومدونة، والسبب فلسطينيتنا، فأي ثورة هذه التي تأخذ وزارة داخليتها قرارا بهذه العنصرية؟! ناهيك عن المعاملة السيئة واجباري على توقيع تعهد في سفارة تونس بالقاهرة بألا أتجاوز مدة الفيزا رغم أني لم أكسرها في السابق مطلقا لأني لم أذهب في الأصل إلى تونس من قبل، وبالفعل انتهى مؤتمر المدونين العرب الثالث دون ان يشارك الفلسطينيون به لأن هناك اصرار ملح على عزلهم عن الربيع العربي كأنه مفترض علينا على الدوام فقط التفكير بمقاومة الاحتلال الاسرائيلي، لذلك فنحن خارج سياق التخلص من الحكومات الفاسدة رغم ان الكل يعرف كم نعاني من احتلال داخلي وحكومتين دكتاتوريتين بامتياز في الضفة الغربية وقطاع غزة.

سكتُّ قليلاً لان حنجرتي تؤلمني من الحديث في السياسة كذلك يبدو ان صدام وجمال لا يفهمان لكنتي كثيرا، رجعت في تفكيري إلى إمارة موناكو التي خرجت منها قبل قليل متجهة الى نييس، وموناكو من اصغر دول العالم، وقد وصفتها لصديق عزيز يحب المدن أنها مثل قطعة الجاتو حلوة الطعم ورائعة المنظر ولكنها كثيرة على المعدة..بالفلسطيني “بتجفص”..

موناكو جميلة كمنزل كبير وسكانه لا يزيدون عن الـ30 الف،  ما يعني أقل من عدد سكان مدينتي رفح.. موناكو محاطة بالجبال الخلابة..جوهرة مخبأة..ومدينة جميلة حد الألم وقد كنت هناك لتكريمي بصحبة المدون محمد الدهشان والذي كان يجب ان يكون اسمه محمد المدهش فهو يتقن ثلاث لغات والعديد من اللكنات ومن ضمنها الفلسطينية وذكي وطيب رغم انه يقول عن نفسه انه شرير، وسخر مني كثيرا لاني حين تصورنا مع امير موناكو ألبرت قلت للأمير اني اجمع أخباره وأخبار شقيقتيّه ستفاني وكارولين منذ كنت مراهقة وأوصيته بأن يسلم على شقيقتيّه، فذكرني الدهشان باالموقف لاحقا قائلاً: ” وقلتيله يسلم على الجيران  وعماته واولاد المنطقة كمان؟”.. في الحقيقة الامير لحظتها ضحك وقال لي اتمنى ان يكون ما كنت تقرأيه اخبارا جيدة فأجبت بسرعة: “بالطبع بالطبع”، ولم أقل له أنها كلها عن اخبار علاقاته العاطفية ورومانسياته خاصة مع عارضة الازياء السمراء ناعومي كامبل.

ولم يكن ألبرت هو الامير او الشهير الوحيد الذي قابلناه أثناءاحتفال مؤسسة آنا ليند فهناك الفيلسوف الفرنسي الشهير أدغار موران والذي قال كلمة عميقة في الاحتفال عن الربيع العربي كذلك سفير موناكو للنوايا الحسنة والمستشار الخاص للملك محمد السادس أندريه أزولاي والذي قدمني بحفاوة أشعرتني بالخجل..!

ولا أنسى ذكر أننا حين كنا نتناول الغداء على شرف الاحتفال على سطح مبنى يطل على البحر الخلاب المليء باليخوت الفاخرة في منطقة مونت كارلو بموناكو، قلت لصديقة لبنانية أني اراهن أن المجموعة التي تجلس في الطاولة التي خلفنا من لبنان فملامحهم شرقية جدا ولم تستطع الفخامة والنظارات الشمسية تغطيتها، فقالت لي: “لا اظن”، دون أن تنظر، وبعد انتهاء الغداء انتبهت للطاولة، لتقول لي وهي مندهشة انهم ليسوا فقط من لبنان بل إن أحدهم بهاء الحريري الابن الاكبر للرئيس اللبناني الراحل رفيق الحريري…يبدو أن موناكو مستعمرة الأغنياء العرب..

أرجع إلى انتظاري في محطة نييس والساعات التي تمر فأنا لا اريد ان اتصل بالمنظمين مرة اخرى واخبرهم اني عالقة لانهم سيرجعونني الى موناكو فهي لا تبعد عن نييس اكثر من ثلث الساعة بالسيارة، لأني افضل خوض التجربة وحدي دون سند حتى لو اضطررت الى المبيت في المحطة، فأحيانا نحن لا نحب المدن الا بعد ان نتوه فيها.. كما أن عنوان المدن ليسوا الامراء وأفخر أنواع السمك والسيارات الغريبة في حداثتها..خاصة لابنة مخيم، فلا أرغب من السمك الجيد سوى زبدية جمبري عند مطعم ابو حصيرة..ولا يوجد عندي أجمل من سيارات أجرة المرسيدس الصفراء في شوارع القطاع..ففي العالم كله لا توجد سيارات أجرة مرسيدس سوى عندنا!!..

بدأ الصداع في رأسي …تائهة ..منتظرة..جائعة…لا أدري شيئاً..يبدو أني بدأت أتخيل الصداع وأتخيل التيه لكن ما هو حقيقي ان الاضراب مستمر واني لا أزال انتظر قطارا لن يأتي أبداً، وان الشاي طعمه سيء بالماء البارد، وأن تلك العجوز ذات الشعر الاحمر التي ترفعه كل لحظة والتي يبدو من ملابس تحملها في كيس قديم أنها دون مأوى هي مصدر الرائحة الغريبة..وليس للشعب الفرنسي رائحة غريبة..ولكني سأنتظر في الايام القادمة.. لن أستعجل الحكم!!..

8-10-2011

اليوم هو الثامن من اكتوبر وساقول لكم ما حدث بالأمس، لم أصل الى كليرمونت بعد..فقد خرجت من نييس بعد أن جاء القطار متأخرا 30 دقيقة ولكن حين وصلت مدينة ليون لم أستطع أخذ القطار إلى كليرمونت فقد تسبب الاضراب بإلغاء معظم القطارات ولا أزال بعيدة عن شقيقتي ما يزيد عن الـ 3 ساعات سفر.. شعرت بالغضب ..لاني كنت اعتقد ان تأخير قطاري في نييس اضاع علي الرحلة التالية حيث تغيير القطارات في ليون، لكني ارتحت حين عرفت ان السبب هو الاضراب، بَيّد أني ركضت مثل المجنونة طوال المحطة مع حقيبة سفر كبيرة،..فلا احد يعرف اللغة الانجليزية، وانا لا اعرف الفرنسية…

  ومن ساعدني مجموعة من الافارقة السود فيبدو أن المهاجرين هم فقط من يحنون على بعضهم البعض وهم من اكتشفوا ان قطار كليرمونت تم الغائه بالكامل، شعرت بالضياع الكامل : هل سأنام في المحطة؟..لكن الجو البارد، هل اذهب الى فندق وانا لا اعرف شيئا في ليون؟..طمأنت نفسي واتصلت على شقيقتي من هاتف عام في الشارع، وقالت لي انها ستأتي وزوجها لأخذي من ليون بسيارة صديق لهما، ارتحت قليلاً، بعد حين اكتشفت ان المحطة حجزت لنا في فندق مجاور فأشفقت على اختي وزوجها أن يأتيا كل هذه المسافة خاصة أنهما يعملان في الصباح..فاتصلت بهما مرة اخرى وقلت لهما الا يأتيا وسأقضي الليلة في ليون.. ولأكمل التجربة حتى النهاية..

 كنت اعتقد ان المصريين أكثر شعب في العالم يثير غضبي، ولكني كنت مخطئة بحقهم  بعد ما تعرفت على الفرنسيين..الآن انا مخطئة بحق الاثنين..فغالبا ما ينبع غضبنا من الداخل ويعتمد على مزاجيتنا، صحيح ان البيروقراطية والسلوك العام في الدول العربية تثير الاستياء ولكن يصعب فصله عن سياق ظلم تاريخي أصاب الشعوب العربية..أوووف رجعت للسياسة..

ذهبت للفندق الذي حجزته إدارة محطة القطار لكل من أُلغى قطاره..ساعدتني فرنسية لطيفة عجوز وتدخن خارج المحطة السجائر في الوصول إلى الفندق، أعطيتها علبة سجائر “كِنت”..وكان معي في الحقيبة “كروز” سجائر كي اوفر على نفسي ثمنها الغالي في فرنسا ولكني اكتشفت انه قارب على الانتهاء فكلما ساعدني فرنسي لطيف اعطيته علبة من “الكروز” وذلك لا يدل على كثرتهم بل يدل على عدم تصديقي انك قد تجد من يساعدك في فرنسا..اعتذر اذا كان في كلامي تسرع ولكنها حقيقة انطباعاتي الاولى..

وصلت إلى الفندق وجلست أتصفح الفيس بوك وتويتر، وسعدت كثيرا بسماع أخبار ترشح صديقتي التونسية الرائعة لينا بن مهني لنوبل للسلام، فهذا الرد الحقيقي على من يحاربها في تونس بعد الثورة، وفرحت بنتائج الجائزة التي أُعطيت لثلاث نساء احداهن اليمنية توكل كرمان..تابعت مزيدا من الاخبار، ومن ثم ذهبت للنوم لأن هناك قطار في الصباح الباكر..

استيقظت في السادسة من صباح الثامن من أكتوبر وتوجهت حتى قبل تناول الافطار في الفندق لألحق القطار ولكنه كان قد ألغي بسبب اضرابات أخرى..انقبض قلبي وشعرت اني لن أرى اختي..نحن اهالي غزة تعودنا على اليأس السريع ..حجزوا لي في القطار التالي، فرجعت الى الفندق كي أفطر على راحتي ومن ثم رجعت الى المحطة وحفظت شكل الشاشة الاكترونية وأمكنة الارصفة كي لا أضطر لسؤال اي فرنسي في حياتي..والان انا في القطار وهناك منقبة في القطار، رغم قانون حظر النقاب وشعرت بشجاعتها انها ترتدي نقاباً رغم القرار العنصري الذي اتخذته فرنسا، وهذا لا يتناقض مع رأيي الشخصي الرافض لنقاب المرأة، لأنه ليس من حق الدولة أن تفرض على أفرادها ما يناقض حرياتهم الشخصية، فالدولة العلمانية تخلق مناخا مدنيا لتعايش جميع الأديان مع بعضها ولا تُقصيها..

 الان انا متجهة الى اختي وهناك محطة تبديل في احدى المدن الصغيرة، واتمنى من كل قلبي الا يتم تأجيل أي شيء والا سيكون معبر رفح ومصاعبه افضل بكثير من محطات قطار فرنسا كلها..!!

بعد ساعات طويلة في القطار أخيراً وصلت إلى محطة إحدى المدن التي تحمل اسما فرنسيا طويلا ومن هناك كان المفترض أن آخذ قطارا الى كليرمونت ولكن استمرار الاضرابات حرمني من ذلك، وكي لا تتحمل المحطة تكاليف اقامة في فنادق من جديد جاءت لنا إدارتها بحافلة مرت على كل القرى قبل أن نصل الى المدينة الموعودة وكانت اختي بانتظاري منذ فترة في محطة كليرمونت فقد تأخرتُ حوالي الساعة..

 حضنتني وحضنتها ومن ثم أخذتني الى منزلها القريب وطبعا ظَلّلتنا الاحاديث والموسيقى العربية والاجواء الجميلة والغذاء الاجمل في البيت الصغير التابع لسكن طلبة ولكنه جميل وسرعان ما جاء زوجها ومجموعة من الأصدقاء وخرجنا لنشرب القهوة في ساحة “جود” وهناك رأيت كنيسة كليرمونت المبنية من حجر اسود بركاني ذكرتني بكنيسة كولون الشهيرة بألمانيا..

 وكان غريبا علي قليلا ان ارى الكنائس الضخمة في مكان العلمانية فيه تحمي مفهوم الدولة من الدين وهو عكس ما يحدث في امريكا مثلا التي تطبق علمانية تحمي الدين من الدولة، ولكني فكرت أن الاماكن الدينية هنا أصبحت جزءاً من التاريخ والسياحة بالضبط مثلما البوذية في كوريا الجنوبية فرغم أنه الدين هناك إلا أنه اصبح دينا سياحيا اكثر منه حيويا بين سكانه، فالمعظم في كوريا تحولوا للمسيحية فهي ثاني دولة في العالم من ناحية كثافة تواجد البعثات التبشيرية فيها.

وزرت أيضا في اليوم ذاته ساحة النصر بكليرمونت ورأيت تمثال أوربان الثاني وهو يشير بيده الى الشرق حيث أمر أولى الحملات الصليبية بالتوجه، ولحظتها قلت لأختي مازحة: هل أتوقع أي شيء عنصري بحقي في هذه المدينة؟، وبالطبع لم يكن الامر صحيحاً فقد لاحظت فكرة مسبقة عنصرية باتجاه الافارقة وليس العرب أو المسلمين وهذا امر لاحظته في كل مكان وليس فقط في فرنسا، لا ادري لماذا كل شيء  يتعلق بلون البشرة ؟ ففي الحافلة التي انطلقت بي للقاء اختي في كليرمونت كان الكرسي الذي بجانب الافريقي هو الوحيد الفارغ في الحافلة، وبالطبع جلست بجانبه، لاني لا انسى انهم من ساعدوني، فالفرنسيين حتى لو عرفوا الانجليزية لن يساعدوك، ولا ادري الى اي حد انطباعاتي صحيحة..

انا حساسة اتجاه المدن الى درجة كبيرة لدرجة اني شعرت أن كليرمونت ليست ذات شخصية كمدينة إلا في نظام إشارات المرور فبين كل اشارة واشارة هناك اشارة وثلاثة طرق فرعية كبيرة رغم ان المدينة فعليا تكاد تكون فارغة..

ومن تمثال أوربان الثاني إلى شرب القهوة التي لا أزال احاول اكتشاف اذا كان هناك ما يميزها في فرنسا ام لا؟ ذهبنا الى مركز تسوق كبير وأخذ زوج اختي عربة تسوق يبحث عن انواع الاسماك والاجبان والخضروات ليصنع لنا سلطة من السلمون وبالفعل استمتعنا بالتسوق كما استمتعنا بالطعام وتذوق أنواع الجبن الغريبة والكثيرة ..

وحين وصلنا وبدأنا بتحضير العشاء تشاجرنا  “تقريبا ” اذا كنا سنضع على السلطة بصل وطحينة ام لا؟، فيبدو أن هذه المواد تصنع الفارق بين السلطة الاوروبية والشرقية..في النهاية انتصرت اوروبا..

 نمنا متأخراً بعد سهرة ضحك وثرثرة  في المطبخ الذي هو أكبر من البيت ..وكان علي ان انام في غرفتهما الوحيدة وذهب زوج أختي للنوم في بيت صديقة الطبيب يوسف وهو سوري كردي رائع بكرمه، وبالطبع في آرائه السياسية فهو معارض عقلاني واخذنا نتحدث عن برهان غليون وحوار “الفضيحة” مع احمد منصور على “الجزيرة” والذي صادف ان شاهدته وانا بموناكو..إن المفكرين الكبار مثل عمرو حمزاوي وبرهان غليون يخسرون الكثير بتحولهم الى السياسة وتتبع طموحهم السلطوي..فلا يرجعون للفكر ولا يمسكون بزمام السياسة، وفعل هذا من قبلهم عالم الدين احمد الكبيسي الذي أسس حزبا في العراق واختفى عن الساحة كمفكر اسلامي تنويري مميز..

وبالطبع لكل عربي هناك معاناة فالدكتور يوسف لا يستطيع ان يرى ابنه الذي في روسيا لانه حين ارسل جوازه للسفارة السورية في فرنسا كي يتم تجديده تم حجزه، رغم انه كان على وشك السفر واشترى لابنه كل شيء يريده من العاب وقصص، ولكنه لم يسافر، وابنه لا يستطيع  القدوم لفرنسا لان والدته المنفصلة عن والده ترفض ترك روسيا حتى لأشهر قليلة، أية معاناة وحزن وأية روح لا تزال متفائلة وفرحة يتمتع بها د. يوسف رغم كل الالم..

نمت وانا افكر في كل هذا، وابتسم حين تذكرت انه من روعة السلطة على العشاء يبدو اني حسدتها فانقلب الصحن في حضني قبل ان آخذ منه لقمة واحدة وطبعا اختي نصف ساعة وهي تضحك والبقية يلتقطون الصور وانا ادعو في رأسي أن يكون طعمها لا يزال صالحا وبالفعل كان صالحا، واكلتها, الا ان نومي كان متقطعاً ومليئا بالكوابيس ولولا شقيقتي بجانبي لاختنقت..

 

9-10-2011

صباح اليوم التالي كان بردا ومطرا..وفيروز تغني وانا لا استطيع القيام من السرير بسبب البرد الشديد ولكنني طبعا اخاف من غضب شقيقتي فقمت أركض، ورأيت على طاولة المطبخ كورن فليكس، فاستغربت قليلا، أليس هذا فطورا امريكيا بامتياز لكني سكتُ فليس غريبا بعض الامركة الفرنسية -فقد رأيت فرعا لماكدونلدز في فرنسا وكان مكتظا- ولكن بالطبع كان على الطاولة الكورسون الفرنسي بعجينة اللوز الرائعة والزبدة والاجبان، بَيّد أني أكلت صحن الكورن فليكس توفيرا للسعرات الحرارية، وفيما بعد عرفت من زوج اختي أن من يصر على شراء الكورن فليكس هي اختي فيبدو انها لا تزال متأثرة بتربية الامارات!.

 ومن المعروف عن الفرنسيين أن الحلويات والسكريات تملأ مائدة افطارهم، وأتخيل أنهم سيجفون لو أكلوا شيئاً مالحاً..

 كان صباحاً جميلا وكتبت على الفيس بوك انه صباح فلسطيني فرنسي بامتياز مع الكروسون والبرد والنافذة التي تطل على الجبال الخضراء ..هذا الجانب الفرنسي اما الفلسطيني فيتجلى في  فيروز والغضب العائلي الصباحي :>..

بعدها خرجنا وتمشينا واخذنا حافلة الى سوق الاحد الذي يبيع الاشياء القديمة ويا إلهي ما اجمله، رائع باللوحات والالعاب والاكسسوارت والملابس وكل شيء جميل ومُجدد، ونادرا ما تجد ما يزيد عن الاربعة يورو، وامطرت ونحن نتمشى في السوق وهو عبارة عن مئات البسطات في ساحة كبيرة جميلة واشتريت بعض اللوحات القديمة والالعاب والاحذية الجلد والجاكيتات الشتوية، وطبعاً اصبح وزن الحقيبة مضاعفا، وعرفت الان حين يذهب الناس الى فرنسا لماذا يستمرون بالقول “تسوقنا في باريس” فهذا هو السوق السري للعرب -أو الطبقة المتوسطة منهم- وهو سوق موجود في كل مدينة فرنسية..

بعد السوق عرفتني أختي على الطبيبة السورية وداد وبصراحة لم نتكلم عن السياسة لاني كنت سمعت من قبل أن عندها وجهة نظر مختلفة في الثورة، ورأيت انه لا يجب ان نختلف خاصة انها كانت رائعة معي وانا اخسر الناس في غالبية الاحيان بسبب النقاش السياسي او الديني، وقد عزمتني على غذاء في مطعم فرنسي يوجد على قائمته لحم الكنغر!!، طلبت اختي سمكاً وأنا طلبت قطعة ستيك وأكدت على أهمية طهيها جيدا الا انها كان من الداخل شديدة الاحمرار الامر الذي جعلني اتأمل الطعم أكثر من الاستمتاع به خاصة أن وداد قالت لي ان الفرنسين ذواقة في اللحوم، وطلبت هي دجاجا مكسيكيا بالخبز الاسباني، بعدها ذهبنا الى منزلها الذي كان جميلا وصغيرا ومليئا بالاوراق التي تدل على كم هي غارقة بالشغل والابحاث الطبية، وساعدتنا كثيرا كي نحجز للذهاب الى باريس ليس عبر القطار بل عبر الـ”كوفوتوراج” والمعنى الحرفي هو النقل المشترك، ولأشرح اكثر فهناك موقع على الانترنت لكل اوروبا يسجل فيه كل من يرغب في اخذ ركاب معه بسيارته وهو متجه الى اي مدينة اوروبية وتكون بأقل من نصف ثمن تذكرة القطار، وبحثنا عن باريس ووجدنا عشرات الخيارات وتعليقات الناس تحته الذين ذهبوا مع نفس السائق، وهل هو جيد في الطريق أم لا؟، ووجدنا أحدهم متجه الى باريس واسمه كريم وعنده مكانين فارغين وهناك 17 تعليقا كلها ايجابية عنه وعن سواقته، وبـ25 يورو للفرد..

 وايضا بحثنا بمساعدة وداد عن احدهم متجه الى بلجيكا من باريس كي نزور شقيقنا مصطفى، واستغربت مدى رواج هذه الطريقة بين سكان أوروبا والثقة والوضوح التي يتمتع بها الناس بين بعضهم البعض، فتخيلوا لو ركبتم بهذه الطريقة في دولة عربية، كم سيكون هناك من الخوف وعدم الثقة؟ ناهيك عن سوء سمعة هذه الطريقة في السفر، لكن  في أوروبا الأمور واضحة وطبيعية فهو ليس سائقا كي نعامله بدونية، كما أنه لا يستغل الركاب بطلب المزيد من المال.. بل هناك تكافؤ بين جميع من في السيارة فالسائق يعوض ما يخسر من بنزين ورسوم دخول المدينة التي تزيد احيانا عن الـ30يورو أما نحن فنوفر المال والوقت ونخوض تجارب مواصلات لا تنتمي للرأسمالية الباردة…

بعد منزل وداد اتصل د.يوسف واخذنا بسيارته  لنرى مدينة “فيشي” وما اجمل مدينة فيشي وشعرت للوهلة الاولى ان لها شخصيتها الواضحة وهي المدينة الوحيدة التي تفتح محالها يوم الاحد، وفيها ينابيع فيشي الشهيرة التي تأتي مياهها من الجبال الفرنسية لتصب في هذه المدينة الصغيرة، وقبل أن أرى الينابيع الساخنة تخيلتها مثل التي كانت في مدينة العين في الامارات على جبل حفيت المفتوحة للعامة للاستمتاع وللسباحة، ولكن هذا ليس بفرنسا فكل الينابيع مغطاة بغطاء زجاجي كأنها مرطبان ضخم، وهناك صنابير في كل مكان وكل صنبوبر مكتوب عليه اسم الجبل التي تنزل منه المياه، والمياه مالحة او بالأحرى ليست مالحة بقدر ما هي لها طعم الحديد والماغنيسيوم …

 

ومدينة فيشي غنية بملابس وبضائع الماركات العالمية حتى المنتجات الموجودة على البسطات فكل شيء غالي بشكل جنوني والتخفيضات تعني نصف الثمن، ونصف الثمن في الغالب لا يقل عن الـ50 يورو، لذلك لم أفكر بشراء شيء، حتى لمحت شقيقتي امرأة تبيع جاكيتات ماركة “إيتام” وثمن الجاكت بـ80 يورو، الا ان التخفيضات على الجاكت بـ25 يورو شجعتنا على شرائه.

وقبل ترك فيشي وشأنها لا يجب أن أنسى ذكر أن حكومة فيشي-حسب مصادر تاريخية فرنسية- تمتعت بسمعة سيئة في بداية أربعينات القرن الماضي حين اتخذها هتلر مقرا له في فرنسا كحكومة عميلة موالية، وساعدته على تطبيق أوامره بسجن اليهود وإرسالهم للمحارق وكذلك ساعدته على محاولات احتلال فرنسا الحرة وبسط نفوذه لمدة تزيد عن الأربعة أعوام حتى حررها شارل ديغول….

ولأيام التيه في فرنسا بقية

أسماء الغول-فرنسا

 

 

 

غادريني يا غزة..كي أرى الجيزة هي الجيزة!

سبتمبر 30, 2011

أسمع هديل الحمام، وأشم رائحة البحر، من خلف ستارة خضراء مقلمة، تدخل منها الرياح وتلاعب شعري، أمشي نحو ستارة النافذة لأرى غزتي وأختبر شتاءها وما قبل شتائها وما بعده،..اقترب.. اسمع صوت موج البحر، يزداد خفقان قلبي..امسك الستارة ..هديل الحمام الصباحي يختلط بالموج ورائحة أول قلي الفلافل، وتراب ما بعد المطر..اقترب من الستارة ويزداد الخفقان، افتح الستارة..فأجد الجيزة ..أنا لا أزال هنا ..لم أذهب هناك .. في القاهرة…حيث لا بحر ولا هديل ولا حتى فلافل…

يهبط قلبي أربعين ربيعاً ويعود لخريف كئيب فأعرف أني لم أرجع لغزة ولم أقترب حتى من رائحتها ولا من هديل حمامها، أتقبل الواقع الذي لا يتقبلني أو يتقبلنا نحن المحكوم عليهم بالإبعاد الاجباري إلى أجل غير مسمى، نحن الذين اضطررنا للرحيل إلى أن تعود البلاد إلى البلاد..

آخر أسبوع سكنتني غزة وسكنتها حد الهذيان..يزورني موتاها تباعاً في اليقظة وأحلام الحرمان والعطش: جدي عبدالله وجدي خليل، فأتكلم عنهما للجميع علّني أخفف الافتقاد..وذنبي لعدم رؤيتهما قبل موتهما..أتكلم عن طفولتي كأني أعيش آخر أيام حاضري ..أخبرهم عن دقات الساعة في الانتفاضة الأولى التي كان وقعها يشبه وقع “بسطار” جندي اسرائيلي يقترب من باب منزل جدي في المخيم، فأبقى مستيقظة طوال الليل ولا أنام حتى تؤكد لي والدتي أنها ليست سوى دقات ساعة الحائط..

أتكلم وأتكلم في غربتي عن غزة ورفح وبحرهما، لعل الحكايات تعوضني ولكن لا الكلمات ولا الكوابيس ولا اليقظة تعوضني الراحة التي كنت أشعر بها وأنا أسمع صوت والدتي وأرى والدي أمامي ونتحدث في كل شيء ونضحك على كل شيء، ويمسنا هواء قادم من النافذة على ضوء الشموع أو “الشمبر”، فبالضرورة تكون الكهرباء مقطوعة..تفاصيل صغيرة وعادية نكفر منها وبها في غزة، ولكن بعيدا عنها يكاد الواحد منا يذبح لها القرابين لترجع وتعود اللحظة، تلك اللحظة وذلك المكان وتلك العائلة..الله ما أجملك يا وطن..

أنا لاجئة ..ولم أعرف يوما وطني الحقيقي وفي الغالب لن أعرفه، وحين كتبت فلسطين أول مرة وأنا في الابتدائية كتبتها بالصاد..لأن وطننا كان دائما افتراضياً..وكنت آمل أن اعتراف الأمم المتحدة بالعضوية الكاملة لفلسطين ينقلها من الافتراض إلى الخرائط والأجندات الرسمية وبين أعلام الدول الأخرى في واجهات المؤتمرات وفي قائمة الدول الالكترونية عند كاونتر تذاكر السفر وحجوزات الطيران وحتى على شباك الوسترن يونيون..بدلاً عن انتظار الذل والإهانة  إلى أن يجدوا أننا كائنات لها هوية واضحة المعالم ولسنا مسوخ الجنسية ..

اليوم وفي هذه اللحظة بالذات ومع كل هذا الحنين ومع حتمية الفيتو الأمريكي، أقول أن غزة وطني الذي لا يعوضني عنه حبيب أو عمل أو حتى حرية..وطن بلا حرية أصبح الآن أفضل عندي من حرية بلا وطن..ليس ذنب أوطاننا أن وجهها يتغير..فأحيانا ترتدي نقاباً وأحيانا ترتدي باروكةً صفراء وأحيانا تضع وشماً..فأوطاننا لا ترتكب الذنوب..بل نحن نكسيها بذنوبنا..ونكرهها ونتشائم منها ومن ثم نهرب كي لا نرى ما اقترفناه..

أشتاق لك يا غزة..إلى شتائك وصيفك وشوارعك واسمائك..وبحرك الذي لا يشبه بحرا هنا وإلى سمائك التي لا تشبه سماءً هناك..وحتى قيظ الظهيرة وعبور المارة الصامت وضوضاء السيارات في يوم عادي أشتاق له،..فعاديتك يا غزة فارقة لا تزور بقية المدن..

يزورني حضن جدي وأنا اختبئ تحت لحافه في ذراعه الكبيرة كأنها جناح “مالك الحزين” فيغادرني الخوف الطفولي..تلك اللحظة بالذات يا جدي لم تعد أبداً بعد موتك..فقد ذهبت بذهابك..كما ذهب اللحاف..وليس معي الآن غير هذه الأغطية الخشنة التي تزيد قلقي وكوابيسي..ولا يخفف وطأتها سوى تلك الستارة المقلمة التي أرى غزة من ورائها…

تعبت من الحنين والعطش..غادريني يا غزة..كي أرى الجيزة هي الجيزة!..

أسماء الغول-القاهرة

30-9-2011

فراس ابراهيم ونجدةأنزور، وكل من عمل في مسلسل درويش..إلى الجحيم

أوت 2, 2011

غثيان…بداية انهيار عصبي… غضب شديد..هذا ما أصابني حين رأيت أولى حلقات مسلسل “في حضرة الغياب” لنجدة أنزور عن محمود درويش، والذي يمثل شخصيته في المسلسل الممثل فراس ابراهيم..

 اكتب لكم الآن مباشرة بعد انتهاء الحلقة، وأنا أقضي بداية  شهر رمضان أمام شاطئ المتوسط رجوعا إلى الاسكندرية مرة أخرى في فندق يقع مقابل تمثال سعد زغلول اسمه “نيو كابري”…ولم يخفف جمال المنظر أو مثالية الفندق من توتري، فأنا أجلس في البلكونة وأكاد أنفجر قهراً وأكتب الكلمات بسرعة، رغم أني أشعر أنها أبطأ من فوران غضبي.. 

لم أصدق عيني من حجم التفاهة والمغالطات التي عرضها المسلسل في أول حلقاته فما بالكم في الحلقات التالية؟!، وبصراحة أنا أمسك نفسي غصبا عنها كي لا أطلق أقذع الشتائم على أنزور وفراس والمال الذي يدعم المسلسل، لذلك سأكتفي بسؤال بسيط لكل انسان جاء ذكره في المسلسل: كيف تسكتون على هذه المغالطات والتشويه المتعمد لشخص محمود العظيم؟، محمودنا نحن.. وليس ملك لسوريا ووزارتها التي يشكرها المسلسل وزارة وزارة ابتداءً من الداخلية التي تقتل الآن الأبرياء، وليس انتهاءً بوزارة الثقافة!.

كيف سكت أكرم هنية رئيس تحرير جريدة الايام برام الله والذي كان رئيس تحريري لمدة خمسة أعوام قضيتها أعمل هناك، كيف سكت عن المغالطات بحق صديقه وبحقه هو نفسه فهناك من يمثله في دور رئسي بالمسلسل مُظهرا اياه يبالغ بابتذال في وصف شعر درويش، وانتقاد الموظفين عنده من الصحافيين في الايام واتهامهم انهم لا يفقهون الكتابة، رغم أن هذا ليس أكرم هنية كرئيس تحرير وقاص وكاتب!..

 كيف سكتت إدارة مركز خليل السكاكيني على تصويرهم بأن مركزهم مكان لبطالة المثقفين، وتأتي فيه الفتيات الصغيرات لاهثات خلف درويش وهو سعيد بذلك ويقنعهن بلزوم تناول القهوة قبل التسرع في المغادرة!!، كيف ترضى اميمة خليل صاحبة اغنية “عصفور طل من الشباك” بالغناء في هكذا مهزلة؟.

 بالطبع لسنا بحاجة للتساؤل كيف لنجدة أنزور أن يخرج هكذا مسلسل فبعد  مسلسل”نهاية رجل شجاع”، لم يصنع شيئاً يستحق فقد وقع في غرام المال الخليجي والركاكة الدرامية خاصة في السنوات الاخيرة التي لم يخرج فيها بمسلسلاته خارج الغرف والصالونات الفخمة واللعب على جدلية الاسلاميين دون عمق.

كما أننا نعرف فراس ابراهيم ومحدودية موهبته، وجنون العظمة الذي يعتقده بنفسه كممثل لدرجة أنه يحسب بأنه قادر أن يكون شخصية درويش بكل عبقريتها، فيضع البودرة البيضاء على حواجبه والشعر المستعار الذي مرة يكون احمرا ومرة اسودا، والتجاعيد المبالغ فيها حول عينيه ونسي أن درويش ليس له مثل أوداجة المنفوخة بالدِعة اللزجة، وليس له مثل عينيه الغامقتين -اذا كان فيزيائيا يريد ان يكون درويش-، كما أنه ليس له اسنانه البشعة، ولا ذقنه….

يكتفي فراس بتقليد درويش بحركات يديه وكيفية جلساته معتقدا انه يمثل بروفا امام مجموعة من الاصدقاء ، وما يقتلك خاصة اذا كنت ممن يعرفون الرائع درويش كيف أنه يمثله بذلك الاستسلام الحزين للقدر، وانتظار الموت بابتذال لا يسعني معه سوى اللطم!!، نعم لقد لطمت رعبا من الشطط المتعمد، والتفاهة والسطحية التي صوروا بها درويش، فهو لم يكن ذلك المستسلم أبدا بل كان واثقا من الحياة، مصرا على آرائه، غير تابع حتى لفكرة الحزن،..متمردا على كل شيء، متواضعا بكبرياء، عصبيا بحنان، لقد اعتقد فراس وانزور ان مسلسل يتحدث عن الشاعر معناه الورود والشموع والجميلات بتبرج مبالغ به، والحزن والموت، واندهاش العينين، والمثالية السطحية التي سرعان ما يكسرونها بصبيانية تأخذنا لمزيد من المجهولية اتجاه هوية المسلسل وأهدافه.

  لا تتخيلوا ضعف صوت فراس وركاكة إلقائه معتقدا انه فعلا نجح في تصوير درويش، ان مقابلتي لدرويش خلال عام 2007 في مدينة سيئول بكوريا الجنوبية وبقائي معه في البرنامج ذاته لمدة تزيد عن اسبوع تجعلني أعرف بعضا من درويش الشاعر والانسان، لذلك اسمحوا لي أن أتمنى بكل ثقة للمسلسل وصانعيه ولأنزور وفراس وكل من ساهم فيه او اشتغل معهما او أخذ درهما واحدا من الانتاج أن يذهبوا الى الجحيم.

 من لم يسمع درويش فليسمعه عبر “الكاسيتات” الكلاسيكية والحديثة وعلى يوتيوب أيضا، ومن لم يرَ درويش يتحدث فليحضر الافلام عن حياته واللقاءات المصورة معه، ويقرأ أوراقه وشعره ويراقب حديثه الصادق الصامت في آن عن حياته وعن نفسه وعن النساء، وبعدها سيسخر بحرقة من أداء فراس ابراهيم وضحالة ميرنا المهندس، وسيعرف أنه من غير المعقول أن تتحول دمشق لرام الله بين ليلة وضحاها..

يا الله..أنقذنا من هؤلاء المدعيّن الذين يمسخون تاريخ كل شيء حولنا لمجرد ان هناك من يغدق المال عليهم لتدمير نماذج كُتابنا وفنانينا الرائعين، فمن قبل كان هناك مسلسل نزار قباني واسمهان، والان جاء الدور على درويشنا.

 لم تنفع الحملة الاعلامية التي قادها بعض الناشطين وبدأها شادي سمرة في دبي لمحاولة وقف المسلسل، لأنهم وقتها ردوا علينا: “انتم لا تمتلكون محمود درويش، وهو ليس منزهاً عن الخطأ”، ووقتها كنا نتوقع هذه الضحالة من فراس ابراهيم الذي يجب أن يضع أحدنا امامه المرآة ليريه ان حجم موهبته بحجم جسده الضئيل، والآن وبعد الحلقات الأولى نحن نتأكد من فجاعة هذه الركاكة ومحاولات التشويه، لذلك نعم نقول لكم أنه هو محمودنا، وهو المنزه عن التشويه ويجب أن نحميه منكم، ومن كل من يبيع حقوق حياته بهذه السهولة ويتصرف في مقتنياته الشخصية دون الرجوع لكل فلسطين، لأنه هو كل فلسطين.

أتيت إلى الاسكندرية بروح متآكلة عقب ايام صعبة قضيتها في القاهرة كي أستطيع أن أكتب عن مدينة نوفي ساد في صربيا التي زرتها منذ أسبوع، وبذلك أكمل الجزء الثالث من يوميات “هروب من الذات الى الذات”، ولكني صادفت مسلسل “في حضرة الغياب” على قناة جديدة فرّختها خصخصة الثورة المصرية اسمها “القاهرة والناس”، فأصابني الغثيان وشعور بالانهيار والاختناق لاني اعرف اننا لن نفعل شيئا وان فراس ابراهيم لو كان قد جلس عاماً بأكمله مع درويش فلن يستطيع ان يفهم كبرياء الشاعر غير المدعي وعشقه الصامت وذاته المتألمة بكبرياء كذلك انزور لن يفهم مدينة بروح رام الله وسيعتقد ان باب شقة يشبه شقة درويش وبضعة شموع وضعها حول فراس ابراهيم ستكون بمثابة مقاربة للشاعر محمود درويش!!..

اعرف اننا لن نتحرك ضد المسلسل وسيبقى فراس ابراهيم طوال رمضان يزعق بصوته الشاذ بأشعار وقصائد درويش فرحاً بنفسه انه يمثل الاسطورة، سنصمت وسيصمت كل من قبض مالا تباركه الغترة والعقال، لانهم  يغفلون ان درويش لم يكن يحب ان يفتش احد فيه، بل ان يحبه الناس كما هو الشاعر وكفى..

أتمنى من أصدقائه: فخري صالح وفيصل دراج، وزياد خداش، وصبحي حديدي، وغسان زقطان، وحسن خضر، ومرسيل خليفة -الذي أتمنى أن لا تكون له صلة بموسيقى المسلسل- أن يكتبوا ضد هذه الفبركة والتمثيل الفج الدبق ..وأن يدحضوا التقارير الكاذبة التي تقول أن أصدقاء درويش وزوجته-لم يكن متزوجا عند وفاته – يدعمون المسلسل..

أنتظر غضبكم\غضبكن

أسماء الغول

الاسكندرية

2-8-2011

من سيرة البحر إلى هذيان اليابسة..يوميات هروب من الذات إلى الذات2

جويلية 6, 2011

هل بكيتم على مدينة من قبل؟ انا فعلت، أنا بكيت على مدينة، بكيت حين غادرت الاسكندرية كأنها حبيب ضائع. وصلت إلى القاهرة: إلى التلوث، إلى القسوة، إلى الحر، إلى الغبار المجاني. وهل يُبكى على المدن؟ نعم..حين تكون بروعة الاسكندرية، أما القاهرة فلا يصيبك من ورائها إلا ما أسميه اكتئاب القاهرة.

في الاسكندرية لا احد يعرفك، وحين يخمنون سيعتقدون انك من ليبيا فحدود السلوم هناك يقطعها الألوف يومياً ليستقرون في المدينة الساحلية التي رغم جمالها إلا أنني رأيت فيها القسوة، فهي ليست مدينة مثالية.. لا توجد مدن مثالية.

رأيت العديد من اطفال الملاجئ يرتمون على الارصفة ويتغطون بأذرعتهم: بشرتهم سوداء من البحر وشعورهم شقراء من الشمس، كلهم يشبهون بعضهم في ملامح الوجه والضياع، رأيتهم مساكين في عالم الكبار، يمسحون الأحذية ويعملون في الكافتريات الفخمة.. عمالة الاطفال هناك ليس عليها رقيب، وكذلك السرقات: فقد سرق احدهم هاتفي المحمول في وضح الناس، وعليه صوري وجميع الارقام المهمة التي من الصعوبة جمعها مرة أخرى، اعترف أن للمدن دائما وجهها القبيح…

 في اي مدينة غيرك يا اسكندرية يكتب على صخورك: “الحب حرام”، وبخط مطبوع كأن البلدية من فعلها؟!، إلا أنها ليست البلدية وإنما جرأة العبارات ووضوح الخط يدلان على تنفّذهم ألا وهم الجماعات السلفية، والاسكندرية كما أوضحت في الجزء الاول هي معقل لهذه الجماعات، ففي اي مدينة عند بحرها الازرق الشاسع يكتب على صخوره: ” الحب مش حرام الحب العيب هو الحرام” !؟، فقط في المدينة التي غدت محافظة بفعل فاعل، يريدونه ايضا بحرا محافظا او كما كتبت غادة السمان ..” لا بحر في بيروت” فلا بحر في الاسكندرية.

وهذه الجماعات مثل كل الجماعات الاسلامية لا تسيطر سوى على أماكن الفقراء، فهذه العبارات كتبوها في الأماكن العامة للعشاق متوسطي الدخل والمعدومين..وهي أماكن في الاصل قليلة امام جبروت السياحة والمال والسلفية، اين يذهب العشاق العاديون: انا وانت وهي وهم، اذا كانوا يحرّمون الحب على مدينة الحب؟!.

يستغل هؤلاء كل ما يستطيعونه من حق يراد به باطل ليمنعون الحب: ” من الهدي النبوي: لمس الخطيب لخطيبته حرام شرعا”، ولكنها في الوقت ذاته ربما الاسكندرية ايضا هي المدينة الوحيدة التي تجد فيها من يرد على الصخور بعبارات اخرى وبكتابات اكثر جنونا: تحت جملة  ” الحب حرام ” كتب العشاق : ” الحب بس بهدلة”، وتحت عبارة ” تخيل أنها أمك أو أختك” ردوا: “هو ما فيش غير امي واختي في البلد”.

كوميديا سوداء بكل معنى الكلمة، إنه عصر الحريم والمتشحات بالسواد في وجه البحر، والعالم والسواحل والموانئ والمدن، لم أرَ عدداً من المنقبات في حياتي في مدينة كالإسكندرية سوى في غزة، وهذا على اعتبار اني لم اذهب الى السعودية بعد!!، كذلك الرجال الذين لهم اللحية السلفية التي يحف معها الشارب، ومعظمهم ومعظمهن لطفاء، ولا ادري لماذا يجب عليهم ان يفعلوا ذلك؟، فعلى سبيل المثال افضل بائع كرابيج حلب أو كما تسمى هناك بلح الشام هو شاب سلفي يصر ان يضع الشوكلاتة الذائبة على لقمة القاضي “العوامة” وانا اقول له :”يا اخي انا شامية وانت تقلل من احترام لقمة القاضي هكذا!” زميلي وصديقي المدون احمد عصمت سحبني من امام الرجل وهو يقول لي :” خلاص انا حاكلها ممكن تبطلي احراج ليه”…طبعا أحمد غضب بعد ما اشتريت كل شيء يباع على شاطئ البحر من الذرة المشوية -لا يعرفون الملح معها، كما لا يعرفون المسلوقة-، إلى الترمس الذي يضعون عليه الشطة، وكنت أناقش كل بائع قليلا اقنعه ان يجرب مثلا الترمس من غير شطة والذرة بملح..وحين اقتربنا من بائع الفرسكا أو بالأحرى هو اقترب منا لأنه يبيعها بصندوق زجاجي ويتمشى به على الشاطئ، بدأ احمد يتبرم بشكل اعنف قليلاً وهنا قلت له بحسم: “انا اصلا قدمت الى الاسكندرية من اجل الفرسكا”، فلن تجدوها في اي مكان في العالم ولا حتى القاهرة الا على شاطئ الاسكندرية. والنتيجة اشتريت الفرسكا، ولم يتصل احمد مرة اخرى بحجة انه لا ينقصه مجانين.

 وبصراحة عدم وجود رفقة في اليومين التاليين أفادني جدا، وأحيا عندي دافع المغامرات المشلول، فذهبت وحدي أبحث عن عنوان البطل خالد سعيد، ولكن قبل أن أحدثكم عنه، أريد أن أوفي أحمد عصمت حقه قبل أن أغدر به-كعادة الكُتاب-، وأعترف اني بفضله تعرفت الى عنوان منزل قسطنطين كفافيوس.

دخلت الى بيت الشاعر كفافيوس تجتاحني مشاعر كثيفة، ذهبت الى غرفته وبلكونته. جلست على سريره: ضوء ذهبي غائم يملأ البيت يشبه شفافية اشعاره، نظرت الى اللوحات على الحائط ما يبدو انها لعشاقه، نظرت من بلكونته توقعت ان تطل على البحر ولكن لم يكن ذلك صحيحا بل تطل على الزحمة ومنازل شعبية اخرى، حتى ان شارع كفافيوس الذي يحمل اسمه لا يتسع لسيارة كبيرة، إلا أنك بمجرد ان تراه تشعر أن هناك شاعرا مر من هنا: الاشجار والمعمار الجميل، ولن اقول الهدوء،..نظرت الى صوره وكتبه وبقاياه المتأنقة بين جنبات منزله\متحفه وتنفست صعداء الماضي وقداسة الابداع..وصورت المنزل وغادرت..

 

كان احد انطباعاتي الاولى عن مدينة الاسكندرية انها مدينة أيروتيكية بامتياز، تضج بالطاقة والرغبات، وليس فقط لان نطفتي في رحم والدتي بدأت هناك، بل لأجواء البحر والحرارة، وجمال فتيات الاسكندرية الذي يتفوق على المدن المصرية بأضعاف، اضافة للعشاق الذين يسرقون القبل هنا وهناك بمجرد نزول الليل، وانا انظر مستغربة كيف يجرؤون؟ يبقون على قبلهم الليلة حتى لو عرفوا أنك تراقبهم..ربما انها مدينة طبيعية وتعاملنا على اساس طبيعتنا فلا يعد من يرانا أو لا يرانا هو المهم..اكتشفت أنني أنا التي لم أعد طبيعية..!!

في هذه المدينة إما أن تكون عاشقا جداً أو وحيداً جدا، وأنا كنت سعيدة بوحدتي رغم غيرتي من مدينة الحب، ولكن هذه الوحدة هي التي جعلتني اتمشى لاتبع العنوان الذي ارسله لي والدي كي اكتشف المنزل الذي عاشا فيه اول عام من حبهما وزواجهما. أذكر اني وجدت البناية وكانت قديمة جدا كأنها آيلة للسقوط، ونبهني والدي أنه حتى حين سكن فيها كانت قديمة جدا. ذهبت الى البواب وقلت له : “بابا وماما كانوا هون في الـ81 وانا اريد ان ارى المنزل الذي كانا يعيشان به”، البواب تحمس لدرجة شعرت اني مشاركة في واحد من تلك البرامج التي تمشي فيها المذيعة ومعها كاميرا وجائزة مفاجأة ومايكروفون وتدق باب الشقة لتقدم الهدية.. بصراحة أنا تقريباً فعلت ذلك حين اتصلت على والدي عبر الهاتف المحمول، وكلمته وهو يوصف لي المنزل وانا اصعد الدرجات حتى قال لي أنها هي بالفعل الشقة المتوسطة في الدور الرابع.. قرعت الباب وفتح لي شاب اصلع،  قلت له: “عائلتي عاشت هنا قبل 30 سنة، وأريد رؤية الشقة”، فرد علي الشاب مرتبكاً: “لكني وحدي في المنزل “، قلت له: “اترك الباب مفتوحا..البواب قادم خلفي” الشاب مصدوم جدا وهو ينظر لي كأني مجنونة، كان والدي معي على الهاتف، سألته عما يميز الشقة كي أتأكد أنها هي، فرد بأن هناك “سدة” فوق الحمام، وهو بالفعل ما كان، وسألته اذا ما كان في الغرفة التي تقع في يسار الشقة بلكونة صغيرة، فرد: نعم، وبالفعل كانت هي الشقة، وكلمت والدتي، وقلت لها لا اصدق انك حملت بي هنا، وكان هذا مكاني الاول على الارض، وهنا تصنعين الشاي وتطبخين، فضحكت متأثرة..

اعتذرت للشاب الذي لا يزال مصدوما اني اقتحمت يومه وتطفلت على بيته، وخرجت وانا اسأله عن اسمه لانه دخل تاريخي الشخصي وسأذكره على مدونتي فقال ان اسمه احمد، وهنا البواب ركض خلفي قائلا :”انا اسمي حمودة، حيطلع اسمي كمان على الانترنت”. هههه.. قلت له:” طبعا طبعا” وما هي إلا خمس دقائق حتى تجمع الجيران يتحدثون عن قصتي..وأحدهم يقول انه عرف والدي، وهناك من يقول ان العمارة تجددت حديثا، فخرجت راكضة لا اريد ان أكلم احداً لأني لا أريد أن أفقد احاسيسي غير العابرة خلال ثرثرات عابرة، ولابد من القول أن اجمل ما كان في العنوان، أن العمارة رقم 72 تقع على البحر مباشرة، ألمحها بمجرد ذهابي وايابي من شارع البحر أو شارع الجيش كما يسمونه، واشعر بالاطمئنان ان هنا كان مكان الحب الاول الايروتيكي الحقيقي في حياتي..انهما والداي العزيزان..

وحدتي هذه غير نادمة عليها، فقد ذهبت الى قلعة قايتباي الجميلة التي تحولت ممراتها المشيدة منذ 1477م مهبطا لعشاق خجولين هاربين يبحثون عن زاوية لحضن او همسة، وسرعان بعدها ما ذهبت إلى مكتبة الاسكندرية وخاطبت هناك حاميتها الفيلسوفة هيباتا، شاكرة انها حمت وتركت مكانا بهذا الجمال والهندسة النادرة ..تحيط به بحيرة مياه “حلوة”، كي تكسر ملوحة مياه البحر التي تفسد أساسات المبنى.

إحياء الجزء المغامر في الروح، يعني أنك قد تذهب إلى أماكن لا تعرفها، بل تبحث عنها لمجرد أنك سمعت بها: اخذت “الميكروباص” الى منطقة “ابو قير” وهي اخر يابسة على طرف الاسكندرية، واعتقدت ان المشوار سيكون هيناً، ظانة ان الاسكندرية تبدأ وتنتهي من حدود مكان اقامتي: المنشية ومحطة الرمل ومجرد امتداد الساحل الذي أراه من هناك، ولكني صدمت حين ذهب وذهب وذهب “الميكروباص”، وكان شارع البحر يقود الى ممرات وشوارع وجميعها واسعة تقع على البحر ..إنه يقودني إلى البعيد الذي لم أختبره يوماً مع مدينة ساحلية، وهنا قلبي هبط خوفا حين اكتشفت انها مدينة كبيرة.. كبيرة ..مرعبة وانا غريبة فيها وعليها، خاصة أن المائة دولار الوحيدة التي احملها في سفرتي هذه اقتربت من أن تنتهي ذلك اليوم، ولكني شجعت نفسي وقلت لها ألاتخاف..فالمدن الأصيلة لا تخون عشاقها..

 ولحظة نزلت في منطقة “ابو قير” شعرت اني بحاجة لأن أستخدم دورة المياه، فسألت سيدة من الشارع، وردت أنها ستأخذني الى منزلها، فذهبت معها تصحبنا إمرأة أخرى، تدخلان أزقة وحارات ضيقة جدا تشبه أزقة وممرات بلوكات مخيم رفح بل أضيق، ومفروشة بالبط والدجاج والإوز الحي، وانا امشي خلفهما واشعر اني مع ريا وسكينة..الفكرة ارعبتني، ولكن  النداء الفيزيائي اقوى من تحذير هرمون الخوف. وصلنا بيتها أخيرا..خرجتُ من الحمام، وانا أسألهما : “شقيقتان؟”، فقالت لي إحداهما انهما صديقتان، وتابعت أن هذا بيتها وتعيش وحدها بعد ان غرق ابنها الكبير وزوجها في رحلة صيد بمرسى مطروح، لتأخذ اخت زوجها بقية ابنائها منها حتى انها لا تستطيع رؤيتهم رغم قرب مكان سكناهم.. حزنت من اجلها وندمت على شكي بها، ولكن بمجرد خروجنا من منزلها تراجعت عن ندمي لأنها بدأت ترشد صديقتها كيف بامكانها ان تسرق بطة من غير ان تصرخ البطة فتفضحها في المنطقة، فعرفت اني نوعا ما مع ريا وسكينة الاوز والبط..شكرتهما كي لا اتورط انسانيا اكثر معهما..فأنا أعرف نفسي..وركضت الى شاطئ البحر الذي يبزغ جميلا ً من بين البيوت الشعبية، ولحقت بالغروب في منطقة “ابو قير” ثم غادرت في “الميكروباص”، بعد ان اشتريت “اللب” المصري الذي ادمنت عليه، ووصلت الى “اللوكندة”، وانا حزينة لاكتشافي ان اسكندرية تختلف كثيرا عن غزة، وليس كما قلت في الجزء الاول من يومياتي، فالاسكندرية بلد واسعة وكبيرة ومليئة بالسواح والحيوات والتعقيدات التي تطلق آلامك بمجرد تخيلها ..

أما كيف تكفي مائة دولار لأسبوع هناك فهو تحد جميل، ومستحيل  لمن يريد أن يصرف مائة دولا كل ساعة وهو أمر سهل جدا في الاسكندرية، لكنك اذا اكتفيت بالكتابة والجلوس امام البحر، والبحث عن “لوكندة” لا تتجاوز الـ50 جنيها في الليلة، فلن تحتاج غير ان تقف في طابور العيش كما فعلت وكانت تجربة رائعة، وحصلت على 20 رغيفاً بجنيه، وتشاجرت مع كل النساء اللواتي خلفي لأنهن لا يحترمن الطابور، ما جعلهن يسخرن من لكنتي الفلسطينية وحرف الجيم الذي أعطشه حد القتل. وطلباً للزهد أو التقشف فأنا أنصح بأكل الكبدة الاسكندراني والسجق الاسكندراني، ولا مانع من وجبة سمك مرة واحدة، لان السمك هناك مرتفع الثمن جدا رغم توفره بكثرة، أما في المواصلات فيجب أن تعتمد على قدميك و”الميكروباص”، وهناك ما يسمى بـ”الترام”، وبخصوص الانترنت تستطيع أن تجد وايرليس مسروق او مجاني في بعض المقاهي الشعبية.

..وعودة إلى آخر الأماكن المهمة التي زرتها..منزل خالد سعيد وهو أكثر العناوين التي أرهقتني حتى وجدتها، اكتشفت المنزل أخيرا والشارع الذي سُمي باسمه في منطقة كيلوباترا ذهبت اليه بالميكروباص، ومشيت وصعدت الى المنزل وانا ارى صورة كبيرة للشهيد بجانب المنزل ولكن لم يفتح لي احد، فنزلت انتظر في القهوة المجاورة للبيت وصعدت مرة اخرى بعد ساعة، وبالفعل فتح افراد من عائلته متخوفين من اي صحافي خاصة بعد العديد من الصحافيين الذين دخلوا بهويات مزيفة لأسباب امنية، أعطيتهم بعض أوراقي الرسمية، جلست معهم ومع شقيقه الكبير أحمد الذي يبدو من حنانه وهو يتكلم عن خالد كأنه والده، متحدثاً عن الالم الذي يعتصر قلبه كأن خالد استشهد للتو..

منحني شقيقه فرصة تاريخية كي أطلع على مقتنيات خالد الشخصية خاصة تلك التي كانت معه في لحظات موته مثل نظارة الغوص إذ كان ينوي الذهاب للبحر بعد مقهى الانترنت، كما اطلعت على اجهزة الكمبيوتر التي يمتلكها في غرفته والبطارية التي كان يستولد منها الكهرباء في حال تم قطع التيار الكهربائي، أدلة  تثبت انه بالفعل كان عبقريا في الانترنت، وأجمل من كل هذا حين تستمع إلى الطريقة التي حصل فيها خالد على فيديو المخدرات الذي كان سبباً في قتله  وشهرته، فقد سحب الفيديو الكترونيا حين كان رجال الشرطة يتبادلونه عبر البلوتوث وهم يجلسون في مقهى شعبي وهو ذاته المقهى الذي قتلوه لاحقا أمامه، وهم يرطمون رأسه  بعنف في درجات رخامية حتى كسروا الرخام..ورأسه بالطبع!!

رأيت كل شيء، ولم اصدق كم هي جبانة “حارة” خالد سعيد، فقد كتّفت أيديها وهي تراه يموت امام عيون الجميع، لافظاً انفاسه الاخيرة، والآن يفتخرون ان الشارع باسمه وكل واحد يحاول متسابقاً ان يشرح علاقته به..هكذا نتخلى عن الابطال في حياتهم ونذكرهم في موتهم فقط . رأيت فيديوهات غير معلن عنها تمتلكها عائلته للمظاهرات التي خرجت من اجل خالد سعيد وللمحاكمات العلنية التي قام بها اصدقاؤه للقتلة في منطقته وذلك قبل الثورة بشهور طويلة، وكلها تقول شيئاً واحداً: ان الثورة بدأت هنا، بدأت حين استطاع خالد سعيد كشف ملفات الفساد التي كان يحصل عليها بقرصنة المواقع الحكومية ويوزعها على الايميلات فلم يكن عنده مدونة، ودعوته إلى التغيير بدأت في محيطه الصغير، فخالد سعيد هو الأب الروحي لثورة مصر، والظلم الذي وقع عليه لن ينتهي سوى بمحاسبة الضُباط الثلاثة الذين قتلوه انتقاما شخصياً لأنه أظهرهم يبيعون المواد المخدرة بعد مصادرتها، تمنيت لحظتها أن يهدأ قلب شقيقه أحمد الذي يشبه قلب طفل بطيبته واحساسه بالذنب لأنه لم يكن يومها مع خالد…

خرجت من منزل خالد سعيد لا اصدق حجم المشاعر الغريبة التي شعرت بها، والظلم الذي من الممكن ان يفعله انسان بانسان وحكومة بمواطن وشرطي بضحية، خرجت حاملة ألم احمد وخالد ووالدتهما وقلوبهم التي تغلي ولن تهدأ قبل أن ينتقموا له، خاصة بعد محاولات التشوية الفظيعة المنظمة التي تحاول النيل من عائلة خالد سعيد وطريقة موته، نحن العرب لا نستحق ابطالا مثل خالد سعيد مصر وبوعزيزي تونس، إلا في حال موتهم، أما في حيواتهم فنعمل كل ما يلزم لنقتلهم ونهشمهم ونعزلهم ونسب عليهم ونشوههم..

أنا الآن في القاهرة..أقضي معظم الوقت أفتقد الاسكندرية ولا أخرج من البيت، أتعمد العزلة.. أكتب وأكتب وأكتب ثم أقرأ، بكيت مرة على الاسكندرية وعرفت أن البكاء لا يجب أن يكون مدخلي للافتقاد ..بل الكتابة هي المدخل والمنتهى والمواساة..

القاهرة

أسماء الغول

 

بين القاهرة والاسكندرية: يوميات هروب من الذات إلى الذات1

جوان 8, 2011

حين أردت أن أكمل مجموعتي القصصية التي اشتغل عليها حاليا، أردت الذهاب بعيدا قليلاً عن غزة وكل أزماتي السياسية والمجتمعية هناك، للبحث عن الهدوء والسلام، ولكني وجدت نفسي في القاهرة اعرف مزيداً ومزيداً من الناشطين والأصدقاء، والمدونين، وأخوض في جميع المظاهرات: مرة أمام سفارة سوريا دعما للثورة السورية المجيدة، ومرة أمام سفارة البحرين دعما للثورة البحرينية اليتيمة الباسلة.

 واختلطت أكثر بآلام الاخرين، وحصلت على جميع أعلام الثورات من ميدان التحرير أو اهداء من بعض المعارضين والمعارضات العرب الذين أصبحت القاهرة تعج بهم، وساهموا كثيرا في ارتفاع معنوياتي، فالايمان بالتغيير لا ينفذ من أرواحهم، لأجد نفسي في غرفتي مع الأعلام البحرينية والسورية والليبية واليمنية، شعرت أني الأم تيريزا للحظة، وأني أريد أن أتبنى جميع الثورات، وسجلت الاشخاص على هاتفي باسم الثورة الفلانية والمظاهرة الفلانية.

وحين وجدت نفسي أغرق بمزيد من السياسة التي هربت منها، ولأني لم أختر السياسة طريقا لحياتي -على الأقل كما أراها الآن-، حاولت أن أضع نفسي في جو الثقافة الذي أحب، فلجأت إلى شقيقي المخرج الذي أخذني إلى عرض فيلمه في معهد جوته الألماني خلال مهرجان للأفلام المستقلة، وغدوت أذهب كل يوم، كذلك فعلت مع مهرجان للأفلام التشيكية والتي كانت مذهلة، وحضرت كمية كبيرة من أفلام الأنيميشن والوثائقية والروائية، كذلك ذهبت إلى معرض فن تشكيلي للفنان محمود فرج في منطقة مارجرجس، وهناك أعجبتني غرابة الاحساس في لوحاته، فالذكورة والانوثة تختفي بينهما الحواجز في رسوماته، ويظهر المكبوت من داخلنا في وجه شخوصه، فأنا اجد نفسي ذلك الرجل وتلك المرأة في اللوحة نفسها.

 ولأني لا أريد أن أكتب عن الفنان محمود على الهامش لأنه يستحق أكثر من ذلك، سأرجع معكم إلى يومياتي وانشغالاتي في القاهرة وكيف أن هذا الغرق الثقافي بمساعدة شقيقي لم يبعدني عن أصدقاء الكفاح، والتورط في زمن نعيشه لم ولن يشبه زمناً آخر، فالقاهرة تعمر بالاجانب الباحثين والأكاديمين والمؤتمرات التي تناقش الثورة واستخدام السوشيال ميديا لدرجة أني شعرت أني في سوق الثورة أو زمن خصخصة الثورة، أحيانا يكون أمراً ايجابياً أن تكون مدينة الثورة عنواناً للثورات، ولكنه في الغالب يمحي قوة الحدث نفسه إذا بقينا نفتش فيه، ونكرره، ونتكلم عنه ونشبعه بحثا حد القتل.

 فتعبت من القاهرة رغم أن لوحات محمود التي اشتريتها من معرضه وعلقتها في غرفتي توازنت عاطفيا مع الاعلام الكثيرة، ورغم أن القطة الجديدة التي أتت بها صديقتي الايطالية جوليانا ووضعتها في شقتنا قد خففت من حدة السياسة والمظاهرات، وانشغلنا بمداواة ما فعلته قسوة شوارع القاهرة بالقطة الصغيرة، رغم كل ذلك لم أفلح في كتابة شيء، ولم يرق قلبي للسرد، بل بقي عقلي مشغولاً بالثورات والمظاهرات، ووقتي أًصبح معظمه يضيع في السفسطة العاطفية والسياسية.

 

وكان خَلاصي المؤقت وصول أحد الاصدقاء المخْلصين إلى القاهرة وهو الخبير في الإسلاميين، واقترح أن نجرب شيئا جديدا للروح، وبالفعل كان الامر، فقد ذهبنا يوم الجمعة الماضية3-6-2011 إلى خطبة محمد حسان الشيخ السلفي، في منطقة حدائق الزيتون الشعبية بالقاهرة في مسجد العزيز بالله، ولم أكن وحدي التي ترفل بثوبها الطويل وتركض نحو المسجد تريد ان تستمع إلى الشيخ محمد حسان -بغرض الكتابة ليس أكثر-، بل خرج من محطة المترو مئات المنقبات والرجال بأثواب قصيرة يسرعون إلى المسجد قبل أن تبدأ الخطبة، ووجدناه مليئا لدرجة ان “الحارة” كلها مفروشة مُصليات وسجاجيد.

 ذهبت إلى قسم النساء الذي كان يشبه منطقة صحراوية، مفروشة كلها بالتراب ومحاطة بسور من الحديد والخشب القديم، وتحت الشمس الحارقة إلى درجة أن بعض النسوة ابتكرن طرقا كي يجدن ظلا يجلسن تحته مثل استخدام أوراق الصحف، ومعظمهن يرتدين النقاب المزود بشبك على العينين-يذكرني بالنقاب الطالباني- أما المرتديات الحجاب كن قليلات جدا، والشيء الغريب كان أن الطبقة الفقيرة ندرت هناك، فمن عباءات السيدات وزي أطفالهن يسهل التخمين أنهن من طبقة غنية إلى حد ما.

 محمد حسان تكلم بحماس كبير عن ميدان التحرير الذي يجب أن يكون في داخل كل واحد فينا، وعن أنواع التحرير: تحرير القلب، والتحرير من ازمة الاخلاق التي تعيشها مصر بعد الثورة، وتحرير العقل من الشك الى اليقين، وتحرير المصريين من عدم الثقة بالمجلس العسكري لانه حامي حمى مصر، وهكذا تكلم الشيخ حسان عن العقيدة ولم يتكلم عن الفقه لان المرحلة تتطلب منه ذلك، كان حماسيا مؤثرا ولكنه ليس ذكيا كفاية، تكلم عن طاعة المجلس العسكري ولم يتكلم عن محاكماته العسكرية المجحفة بحق الثوار.

صديقي المخلص للموضوعية اقترح علي بعدها أن نذهب إلى شيء معاكس تماما للسلفية: إلى مسجد السيدة زينب حيث توجد حَضرة للصوفيين، وبالفعل اخذنا المترو وذهبنا إلى مسجد السيدة زينب، وشاهدنا الحضرة الصوفية وهكذا قضيت الجمعة بين السلفية والصوفية. تناقضان لا توجد بينهما أفضلية بقدر ما تتعرف على كل واحد منهما بمقابلته للآخر: السلفية فقه الجسد والصوفية فقه الروح. الصوفيون ينشدون حب الله ومعظمهم من الفقراء دون حاجز آلي ولا صحراء للنساء، بل كانت النساء في نفس الحضرة مع الرجال يهيمن في حب الله والانشاد له. الرجال والنساء يحررون الروح من الهيكل\الجسد، كما قال لي صوفي يبدو أنه من خاصة الخاصة: “مثل السمكة في البحر لا تستغني عنه، والروح لا تستغني عن خالقها وتحتاج إلى التوحد معه”.

الصوفيون يتجاوزون عوائق الاختلاط والجسد والرجل والمرأة للوصول مباشرة الى الروح، وهو بالفعل الدين الشعبي للفقراء، ولكنه ليس دينيا عبطيا، بل هناك قوننة للحب الالهي، وليس الامر دروشة فطرية فقط، انه تناقض كبير مع تزمت السلفية وتقعيدها للجسد والابتعاد عن الروح، والترهيب، والامر بطاعة ولي الامر مهما كان فاسدا، فهذه السلفية هي التي رفضت الثورة ثم فجأة أصبحت تجلّها، والحقيقة أن حال الصوفيين لم يكن أحسن في انتقاد الثورة فالداعية اليمني الحبيب علي الجفري كان موقفه محبطا الى درجة كبيرة من الثورة، وهو أحد رموز الصوفية الذين يقيمون في القاهرة.

 انا لست أكاديمية أو بروفسورة في أفضل جامعات العالم كما هو رفيقي الباحث، ولكني كاتبة أثق بحدسي الصافي نحو الأشياء، لقد خلبت كلمات الأشعار الصوفية روحي تماما، وشعرت معها بتحرر، وجلست بينهم ليس كسائحة فلم يكن ذلك يبدو علينا لأننا إلتزمنا بكل ما تمليه مثل هذه الاجواء الدينية. وطوال الوقت كنت أفكر أن هذا هو الدين: المحبة والترغيب والثقة والابتسامة والايمان، وليس التخوين والتكفير، والفصل وطبقات القماش السوداء حول النساء، والشمس الحارقة والتبعية لولي الأمر، وبالطبع أحترم كل من يختلف مع احساسي، فأنا أعرف أن هناك نقاط خلافية كبيرة مع الصوفيين مثل قضية قبور الأولياء الصالحين.

 يومياتي جميعها حتى الروحانية منها، أبعدتني عما جئت من أجله إلى مصر، وأقصد الكتابة القصصية التي تحتاج لأن ألفظ قليلا التدوين والصحافة والفيس بوك، وتويتر، والابتعاد عن التجارب الجديدة، او الغرق في ألم التجارب القديمة، فالكتابة القصصية تحتاج إلى سلام، وذاتية مقيتة، وعزلة اجبارية، وتكثيفا للغة وتخزينا للاحساس والطاقة والرغبة، لذلك أخذت القرار سريعاً:  قررت مغادرة القاهرة إلى مدينة لا أعرفها أو بالاحرى مدينة لا تعرفني، فشددت رحالي واخذت كتابين أحدهما رواية مملة في الحقيقة لكولن ويلسن، عنوانها “الشك” وهي عكس كتبه الرائعة في الفلسفة، وحقيبة صغيرة فيها قطع ملابس ليس لها علاقة ببعضها البعض وتوجهت إلى المحطة وحجزت كرسيا في القطار المتجه الى الاسكندرية.

 وحين وصلت، يا الله كم صدمني جمال المدينة: يتوسط البحر المدينة بدقة غير معهودة، كما أن إحاطة المباني للبحر فيه حنان غريب، كانت عينيّ قد افتقدتا الافق البحري بعد ثلاثة أسابيع في القاهرة، فقد اكتشفت هنا أن مجاورتي للبحر في غزة حولتني لكائنة ساحلية، فاشتقت بعطش لرائحته القادمة من بعيد.

 

ارتحت، تنفست بعمق، لم أهتم ان ابحث عن مكان اسكن فيه، بل جلست قبالة البحر بمجرد وصولي أشاهد الغروب، حاولت الاستعانة بأصدقاء لمعرفة خير مكان وارخص مكان وأقرب مكان من البحر للكتابة، لكن الامر لم يفلح كثيرا، وبمجرد ان وصلت جلست في الشارع وأنا أجر ورائي حقيبتي، ارسلت رسالة لوالدي قلت له فيها :”عرفت الان لماذا ماما حملت بي هنا؟ انها مدينة الحب والجمال” فرد علي يقول :” روحي سبورتنج الصغرى، شارع الجيش بناية 72 الدور الرابع، اول عنوان لك”، بكيت وأنا أراقب الغروب على شاطئ الاسكندرية، والدي ووالدتي اللذين تحابا في مخيم رفح منذ كانا طفلين عاشا اول عام في زواجهما هنا، وحملت بي والدتي هنا، إذ كان والدي لا يزال طالب  في مرحلة التخرج من جامعة الاسكندرية.

اذن هذه كانت مدينتي الاولى وهنا كان عنواني الأول، وانا الان فيها نكرة، وكم أحب المدن التي تحولنا لنكرات، نتوه ونضيع بحثا عن ذواتنا من جديد، بحثا عن حبنا، وعما نريده، كلما ابتعدت بي المدن كلما زاد قربي من غزة ومن الله ومن ابني ومن نفسي.

 في هذه المدينة والدتي حملت بي تسعة شهور وحين حان موعد الولادة، رجعت براً لمخيم رفح وولدتني هناك، كم أنا محظوظة بك يا اسكندرية، مدينة الحب والهوى، وكم أحب أن أقارب وأقارن بين المدن حين تصدمني بالفرح، وكم انتظر من نفسي ان تشعر بالانطباع الاول: مدينة إلهام وجمال بامتياز، مدينة الشاعر قسطنطين كفافيس والفيلسوفة هيباتا، تذكرني بجمال مدينة أنطاليا التركية مع فارق الاهتمام بالكورنيش، والمرافق العامة.. مشيت ومشيت ومشيت واكتشفت “لوكندة” صغيرة على البحر ورخيصة والاهم انها فارغة تماما، الا من رجل عجوز يحرس بابها ويسجل الزائرين، فكأني حجزت “اللوكندة” كلها، يبدو أن الاسكندرية خالية من السياح إلا من بعض العائلات الخليجية كما لاحظت..

الآن أجلس في مقهى شعبي أمام البحر انتظر بزوغ الفجر، حيث يقع  المقهى تحت “اللوكندة” التي اقيم بها، وأقنعت بصعوبة صاحب المقهى ان أجلس لانه يقول ان الشرطة السياحية ترفض جلوس النساء بمفردهن-يبدو أن المرأة تهمة في أي مكان وبأي حالة، فقد كنت اريد ان اقول له انه عندنا في غزة يفضل أن تجلس المرأة وحدها هههه-، ولكن حين قلت لصاحب المقهى اني صحافية واريد ان اكتب شيئا ثم نظر الي بتمعن ولاحظ كوفيتي والتيشيرت المليء بالشعارات الذي أرتديه، ارتبك وسمح لي بالجلوس، يبدو أن الثورات جعلت للكتابة والتدوين والشباب سطوتهم بالفعل.

لم تسعدني مدينة زرتها من قبل مثلما فعلت الاسكندرية رغم حزني الشديد ان ارى مدينة الحضارة وتاريخ الكوزموبوليتانية من يهود ومسيحيين ومسلمين وأرمن ويونانيين ومصريين هي المقر الرئيسي للجماعات الإسلامية المتشددة، فالقاهرة أكثر انفتاحاً، وسألت نفسي بغرض الاستنكار إذا ما كانت الاسكندرية في الماضي مدينة كافرة أم أن الدين كان أكثر صوفية وروحانية ؟ وهل هناك مدن كافرة وأخرى مؤمنة؟…وكيف لأي أحد أن يسكن في مدينة مثل الاسكندرية من الممكن أن تتزمت روحه وطبائعه..فهي مملكة الحب والبحر والجمال..؟!

انتظركن\ أنتظركم

الاسكندرية

فجر يوم الاربعاء 8-6-2011

محبتي

أسماء الغول